فى القرن الثالث الهجرى، وهو القرن الذى برز فية أئمة الحديث المشهورين مسلم والبخارى وأحمد، كانت هناك فتنة عظيمة أحدثت هزة عنيفة فى جنبات العالم الإسلامي هي “فتنة خلق القرآن“.
حيث تجرأ على الله الخليفة الأموى المأمون فى آخر حياته ودعى الناس للقول بخلق القرآن، ثم أكمل من بعده الخليفة المعتصم بن الرشيد، وهو صاحب السوءة والتعذيب للعلماء ومن بعده الواثق..
حيث حشد العلماء لذلك وكان من يعترض يسوقه أشد العذاب وعاونه أهل المعتزلة، ولم يثبت في هذه الفتنة إلا عدد قليل من العلماء ووقع فيها الكثير، وممن ثبت كان إمام الدنيا أحمد بن حنبل رضى الله عنه فأُُدخل السجن وحُبس فترة كبيرة وكان يعذب عذابا شديدا مع كبر سنه..
وكان للإمام صديق يسمى يحيى بن معين (وهو إمام الجرح والتعديل)، وكانوا أصدقاء مُقربين زاملوا بعضهم سنين طوال، ولكن لم يثبت يحيى بن معين وقال بخلق القرآن، فما أن علم أحمد حتى خاصمه وافترق عنه، بل قال الذهبى في سير أعلام النبلاء (11/87):
((إن أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن يحيى بن معين، ولا عن أحد ممن أُمتحن في خلق القرآن وأجاب بنعم)).
وقال الشيخ الحويني: “فارق إمام أهل السنة إمام الجرح والتعديل بسبب ذلك”، وقال أبو بكر المروذي: “جاء يحيى بن معين فدخل على أحمد بن حنبل وهو مريض فسلم فلم يرد عليه السلام وكان أحمد قد حلف بالعهد أن لا يكلم أحد ممن أجاب حتى يلقى الله، فما زال يعتذر ويقول حديث عمار وقال الله تعالى: “إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان”.. فقلب أحمد وجهه إلى الجانب الآخر فقال: يحيى أن لا تغفر ألا تقبل عذرا فخرجت بعده وهو جالس على الباب فقال: ماذا قال أحمد بعدي قلت: قال: يحتج بحديث عمار وحديث عمار “مررت بهم وهم يسبونك فنهيتهم فضربوني”، وأنتم أقيل لكم نريد أن نضربكم؟ فسمعت يحيى بن معين يقول مر يا أحمد غفر الله لك فما رأيت والله تحت أديم سماء أفقه في دين الله منك”.
فالشاهد من القصة؛ أن أحمد كان صديق لـ يحيى، ولما سقط الأخير وقف أحمد بالحق وفارقه ولم يخشَ في الله لومة لائم، وهنا يلمع فى ذهني دائما موقف الإمام هذا عند كل فعل يصدر من عالم أو داعية يؤيد فيه طاغية أو ظالم ولقد سقت القصة تعزية وربطا على قلب من لا يجد عزاء وإثبات مشروعية فعل هذا..
فمنذ ظهور الشيخ محمود المصري قديماً أيام الثورة المصرية ودعوته للشباب بأن لا يخرجوا على حسني مبارك وهو قد سقط عندي، ومنذ انقلاب تموز 2013 سقطت أقنعة الكثيرين، فلا أستطيع أن أسمع منهم أو أتقبل أي كلام يخرج منهم، فلا عاد يُطربني الشيخ حسان، ولا عادت تعجبني طريقة الشيخ يعقوب، ولا عُدت أحب مشايخ إسكندرية ممن أيدوا الانقلاب، بل بت أجد غضاضة في صدري عند قِرائتي لكتاب استمتع بحياتك لمحمد العريفي بعد تأيديه للظلمه، ولا أستطيع قراءة لا تحزن بعد ما فعله عائض القرني, بل صار صوت العفاسي يؤذيني ولا أطيقه، وأصبحت كتب ذلك المشهور لا تساوى الحبر الذى كتبت به بعدما سبح بحمد الطاغية، إذا سمعت خطيبا يدعو لظالم على منبر أُكرم سمعي عن بقية كلامه ويسقط من نظرى..
سيقول أحدهم أنهم معذورون ويسوق قولة (إلا من اضطر).. نعم؛ أعلم ذلك ولكن لماذا يختاروا مثل هكذا طريق، وإذا سكت أهل العلم تَجبُناً فمتى ينتصر الحق ويعلو، ثم وإن سجنوا أهم أفضل ممن في السجن، ألم يعلموا أن طريق الحق صعب والثبات عليه أصعب..
ألا يريدون أن يُشاكوا بشوكه، فَمِن أين إذاً نُمكَن ونحن لا نوطئ له ونقدم بين يديه أي حسن نية، ويا ليتهم على الأقل صمتوا ولم يتكلموا، ومع ذلك لا أُجبر أحد على كره أحد فمن استطاع منكم أن يتعايش معهم هكذا فليفعل أما أنا فلا..
فليت في جَوفي قلبين حتى أُنشط أحدهم حين يؤيدون الظلمة، وأُنشط الآخر عندما يتكلم كلٌ في صَنعته،
ولكنه قلب واحد وجوف واحد، فقلبي لا يطيق الانفصام أن تحدثني عن الجهاد ونصرة المظلوم بالنهار ثم يأتي الليل فتحدثتني عن الحكام وتأييد الطواغيت..
نفسي لا تُطيق أن أقرأ كُتبك أو أن أسمع لك وأنت في نفس الوقت تُداهن حاكماً أو تلعق حذاء طاغية خشية منه وجُبناً أو لغرض من الأغراض، ومازال القوس مفتوح لم يغلق ومازالت الدنيا تُتحفنا تترا بوجوهٍ أن لها أن تسقط بعدما أناخت وراخت..
ولا حول ولا ولا قوة إلا بالله، وسلواي ومرجعيتي في هذا الموقف إمام الدنيا أحمد بن حنبل رضى الله عنه وأرضاه وجمعني الله به في جَنته ودار مقامته.