لم يعد محتوما على الفرد الإنساني الانسلاخ من إنسانيته من أجل تقديم قرابين الولاء لأحد، حتى يثبت وجوده، ولم يعد من المهمّ للغاية أن يسير الإنسان ملتقطا أفكار الآخرين حتى يبدو في قمة الوجود والتواجد على مساحة الأرض الشاسعة، فقط يكفيه أن يعبّر عن نفسه بما له من ركائز، وسيحتوي على الفور عالمه، كما أنّ هذا العالم، سيبادله الاحتواء في مشهد لا يتكرر وفق كافة العناوين ولا المضامين.
لغز الإنسان الرهيب منذ بداية وجوده على هذه البسيطة تركز حول امكانية اثبات نفسه وذاته للآخرين، وبالتالي محاولة التميّز والتفوق في كافة مجالات الحياة، وهذه الخاصية بالذات صنعت منه وحشا لا يجاريه في توحشه أحد حينا، وعاقلا لا يمكن لأيّ كان الاستحواذ على مكانته الاجتماعية والثقافية أحيانا مخالفة؛ هو موقف صعب للغاية، لمّا تعيش مشتت الذهن، غير مدرك للحال التي تصارعها بمفردات الزمن والمتغيرات، تجعلك كل هذه الوضعيات في نطاق خوف لا يتبدد، وضمن مجال مغلق لا يرحم.
1. علاقة الإنسان بالبقاء
غاية الفرد الإنساني ليس البقاء فحسب، وإنما البقاء بأحسن حال أيضا، وهذه بالذات النقطة التي تقوده إلى هلاكه، إنّ البقاء بالنسبة للإنسان هو الشغل الشاغل له، من أجل هذه الغاية، التقط الحياة بأكملها ودفعة واحدة، وراح يجادل الأيام رغبة منه في صياغة منطقته المحصنة الخاصة، ليستعمل من أجل تحقيق هذا كافة الوسائل المتاحة وغير المتاحة، المقبولة وخلاف ذلك.
منذ ولادة الطفل، وخلال بداياته الأولى، ومن خلال اتصالاته المبدئية بهذا العالم، هو يحاول تجنب كل ما يجعله يهلك أو يندثر، لذلك تراه يلهث خلف الرفاهية من تعليم ورعاية صحية، تراه يقود الحملات من أجل الاستيطان وامتلاك الأرض والتاريخ، حتى يحوز لنفسه مشروعية البقاء، تراه يعمل جاهدا على غرس جذوره عميقا ليتربع على بقائه بالاستناد على آلاف السنين، وهذا بالذات ما يفسر الكثير؛ كل ما نراه اليوم من تطوّر في نماذج العيش هي نتائج لهذه الرغبات الدفينة التي تكتنز كل طاقات الإنسان في روح الإنساني، كلّ ما يحمله الفرد الإنساني هو قدرة خلاقة على ابداع كل متطلبات وجوده عند بناء مساحته الخاصة قصد البقاء.
2. بقايا الإنسانية على مسرح الهاجس البشري:
ستسير أيها الوحش على مداميك رهانات الروح، ستغضب منها فتحاول إقصاء ترانيمها الغريقة في محيط الكلمات والمعاني…
هكذا شدا العالم البشري في “صراعه” مع الحياة، وهي بالذات قناة تواصلية رهيبة تحمل الكثير من هوامش الأيام نحو الكيان الفردي مباشرة، لتسارع الزمن من أجل اختصار لغة تترنح على حساب افتكاك مكانات لوجود الإنسان، تعاود الانصياع من أجل تجنب آخر البغايا اللفظية الروحية، لكن عمق الثقافة وأصالة التاريخ تخطف من الفرد لحظات ناعمة، لتصبح أمام الأرض، هذه الأم الرحيمة، مزارات لأتقى الأفراد، من أجل تجميل أعتق الوقائع القديمة.
نعم أيها الوحش!
ستزيدكـ الأيام قلقا وتوترا، فتطلب حضنا يحميك ويبني فوق قداستك سياج الحرية والعدالة، هذان الكلمتان التي تعبران عن وهم الإنسان أثناء مواجهته لسحر البيان، ستغزو ذاتك الكثير من علامات وهن الارتقاء نحو النجوم، لتحاول وأنت الضعيف أمام صورتك أثناء وقوفك في مواجهة مرآته المرور على جسر رقيق للغاية، من محيط ذاتك نحو جزيرة واقعك، ومن أجل هذا تعد العدة، تأخذ حماما ساخنا بصابون الدماء، تحلق لحيتك بسيوف المعارك التي خضتها، تلبس ثيابا اقتنيتها من أقبية العناكب، تتعطر بروائح الجثث التي سلبتها أرواحها، تعدل ساعتك التي تحمل إليك اندثارك، ثم تحمل كل هذا وتسير بحدائك المصنوع من جماجم ضحاياك، نحو موعد رحيلك النهائيّ.