عند الحديث عن الاتحاد فإنه ليس بحديث عن النقابي فقط في تونس، بل حديث عن تاريخ بلاد بأكمله، إذ كان لاتحاد الشغل دور محوري في مختلف محطاتها بداية من الاستقلال وصولًا للثورة. فالاتحاد يلعب أداورا عديدة فهو ليس فقط صوتًا للعمال، بل كذلك صوتًا باسم التونسيين، وهذا الدور السياسي أو الوطني كما يسميه قادة الاتحاد، لا يقل أهمية وثقلًا عن دوره النقابي أو الاجتماعي.
عندما نقول الدور النقابي فإننا نقول محمد علي الحامي الذي أسس أول نقابة سنة 1924 (جامعة عموم العملة التونسيين).. محمد علي الحامي الذي تأثر متأثرا بأشكال التنظيم الجماهيري التي عاينها خلال فترة إقامته في ألمانيا.
عند عودته إلى تونس اشتغل محمد علي الحامي على ربط حركة المطالب الوطنية التونسية بالقواعد الشعبية بعد أن كانت تتوجّه لنخبة صغيرة مثقفة ذات طبيعة برجوازية، وهذا ما تسبب بقطيعة بينه وبين الحزب الحر الدستوري، قائد الحركة الوطنية في ذلك الوقت، دفعته إلى التفكير في صيغة تنظيمية جديدة للنضال الجماهيري ضد الاستعمار، فوجد ضالته في العمل النقابي.
عندما نقول اتحاد الشغل نقول ساحة محمد علي الحامي التي توجد أمام مقر الاتحاد بتونس العاصمة، هناك أين شهد مواجهات بين النقابيين والسلطة زمن الاستبداد، وظلت الساحة لليوم مكانًا يعبق بالرمزية.
ولكن لم يعمر هذا المولود النقابي إلا بضعة أشهر حيث حاصره الاحتلال الفرنسي وتوفي الحامي شابًا بعد أربع سنوات، ولكن لم يمت معه الحلم النقابي.
فرحات حشاد.. مشروع نقابي آخر
ولد سنة 1946 مشروع نقابي آخر على يدي الموظف فرحات حشاد الذي أسس الاتحاد العام التونسي للشغل، وكان ذلك في أوج تصاعد النضال التونسي ضد الاحتلال الفرنسي. ومن هناك أصبح الاتحاد ذلك الركن الثابت والأساسي في المشهد العام للبلاد التونسية وبه انتشر الحس النقابي لدى جميع طوائف العاملة.
ولم يكن دور الاتحاد هو الدفاع عن حقوق العمال التونسيين ضد المستعمر في ذلك الوقت، بل لعب دور المؤطر للطبقة العاملة لقيادة العمل النضالي ضد الاحتلال. وبذلك مثل فرحات حشاد رمز الشؤم للمستعمر الفرنسي وهو ما دفعه إلى اغتياله سنة 1952 على يد العصابة الحمراء، الجناح السري للمخابرات الفرنسية، وهي عملية لا زالت لليوم لم تبح بأسرارها في ظل استمرار المطالب بكشف الحقيقة والمحاسبة واعتذار الفرنسيين.
الاتحاد والسلطة السياسية
لطالما كانت العلاقة بين الاتحاد والسلطة السياسية في أولها علاقة شراكة متبادلة، وبداية العلاقة كانت عندما دعم الاتحاد الحبيب بورقيبة في صراعه ضد غريمه بن يوسف قبيل الاستقلال، وتشارك التنظيمان في قائمة موحدة فازت بجميع مقاعد أول برلمان بعد الاستقلال، ثم استنجد بورقيبة الذي بات رئيس البلاد بأمينه العام أحمد بن صالح لتنفيذ البرنامج الاقتصادي الاشتراكي الذي يعرفه التونسيون جيدًا بالتجربة التعاضدية، والتي دامت لبضع سنوات بداية الستينات، قبل أن تنتهي قسرًا لتعلن فشلها ويلاحق النظام وقتها بن صالح بتهمة الخيانة العظمى. وهذا ربما ما أعطى للعلاقة صبغة السيطرة لا الشراكة بين الطرفين.
اضطربت العلاقة بينهما واختار الاتحاد آنذاك أن يلعب دور المعارض للنظام في غياب أي معارضة سياسية بما أنه لم يسمح بورقيبة بتشكل أي تنظيم معارض له. كما كان هذا الدور نتاج لاشتداد استبداد النظام البورقيبي وبداية تنفيذ السياسات الاقتصادية الليبرالية التي جعلت الأُجَرَاء أكبر الخاسرين من السياسات الليبرالية التي قادها الوزير الأول الهادي نويرة.
وبرز أمين عام للاتحاد الحبيب عاشور وقتها الذي كان بمثابة الجدار المانع لسياسات الحزب الاستبدادية وتفافمت الصراعات بين مليشيات الحزب الحاكم وبين الاتحاد وكانت أحداث الخميس الأسود سنة 1978 التي خلفت عشرات القتلى. اندلعت انتفاضة الخبز سنة 1984 بسبب غلاء الأسعار وتحديدًا ارتفاع سعر الخبز..
أما مع النظام النوفمبري فقد تمكن بن علي من الإطاحة وتدجين الاتحاد، إذ استطاع أن يشتري ولاءات من قيادات الاتحاد، لكن لم يكن الاتحاد حقيقة كتلة موحدة فهذا تيار غالب يُعرف بالبيروقراطية النقابية، يسيطر على مقاعد المكتب التنفيذي، لم يدخل في مواجهة مع ابن علي، وكان دائمًا ما يحل مطالبه الاجتماعية بتوافق مع النظام ولا يعصي للنظام أمرا ما دامت التعددية مغيبة عن الساحة، وهو ما جعل بن علي يعقد صفقاته مع قيادات الصف الأول. مقابل تيارات ذات ألوان سياسية من اليساريين والقوميين تحديدًا، كانوا أبعد على الخضوع التام، وكانوا الأكثر إقدامًا في المواجهة.
وفي 2011، وبعد الثورة المجيدة، نشأ مكتب تنفيذي جديد بقيادة حسين العباسي، والعباسي هو ابن المكتب التنفيذي السابق أيام المخلوع وظلت مقاعده موزعة بين المحسوبين على اليسار والقوميين من جهة والنقابيين التقليديين الذين يخف عندهم الثقل الأيديولوجي على غرار العباسي.
عانت حكومة الترويكا آنذاك مواجهات الاتحاد التي لم تكن مواجهات مطلبية اجتماعية فقط، بل بان للاتحاد دور محوري آخر في قضايا غير نقابية ومن ذلك قضايا اغتيال شكري بلعيد والحاج البراهمي، ثم لعب الاتحاد دور الموفق السياسي بين الأحزاب السياسية وذلك منذ مبادرته للحوار الوطني سنة 2012، والتي أخذت شكلها النهائي سنة 2013، والتي انتهت بتوافق سياسي لازال لليوم يحكم المشهد التونسي، وهو توافق جعل الاتحاد وشركائه الثلاثة يفوزون بجائزة نوبل للسلام.
وها هو اليوم يسعى لتعزيز دوره كشريك فاعل للمشهد العام في إطار مسؤوليته الوطنية كما يسميها دائمًا في أدبياته وهو ما يجسد دوره الإيجابي في الحد من مشاريع الخصخصة وبرامج المانحين الدوليين المكلفة اجتماعيًا، ويبقى الاتحاد صاحب الدور المحوري بمثابة ركن ركين في المشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للبلاد التونسية ويحسب له ألف حساب.