الالتفاف

سألتُ مرّة مقربا عن مخططاته وطموحاته المستقبلية، سؤال غريب في الجزائر.. الرجل الذي كان يقود السيارة خزر في نقطة ما بالمحيط، مطّ شفتيه في ذهول، من المحتمل أنها المرّة الأولى التي يُطرح عليه هذا السؤال، وقال: لا شيء. أربي طفلي وكفى، الحياة أرهقتنا تماما..

جواب منتظر لكني عاودتُ السؤال بصيغة أخرى علني أحصل على جواب وافٍ وذّكرته بمثل شعبي “يعني تاكلْ القوتْ وتسْنى الموتْ”، فجأة امتقع وجهه كأن غيّمة كثيفة السواد مرّت عليه وانزلق بعُسر ريقه في حلقه.

لمحتُ حسرة عميقة في جانب وجهه ولم أشكّ للحظة واحدة أن وقع الجملة صدمه. أن يتفطن شخص ما، في لحظة تجرد عاتية، إلى أنه مسيّر إلى الموت دون أن يقوى في خضم هذا الدربّ المحمّل بالأسئلة الكبرى على رصّ شيء يُرضي به ذاته فهي حتما فكرة مرعبة وباعثة على قلق رهيب..

الرجل الحسير لم يجاوب، فهمتُ أن ردّة فعله الفيزيولوجية تلك هي شيء من الالتفاف على خيبة تميس في اللحم والعظم، تعبير جسدي بليغ.

في الجزائر، يصعبّ أن تجد أناسا تفكر في المستقبل، هنالك مثل شعبي واسع الانتشار يُفسر المعطى الشعوري للناس “أحييني اليومْ واقتلني غدوّة”.. والحقيقة أن هذا ليس إيمانا بالحاضر بقدر ما هو كفر بكل ما يرمز للأمل والغد.

كل الأجيال التي جاءت عقب الاستقلال شبّت على هذا الاعتقاد، لكن جيل نهاية الثمانينات والتسعينات الذي نبت في ظلال المأساة وكبر في زمن اللايقين يشعر أكثر شيء بالخديعة، إنه لا يملك حيال واقعه خيارات كثيرة للمناورة لكنه يلتف على انكساراته وخيباته وآماله المزنزنة بطريقته، من هذه الطرق الهجرة غير الشرعية أو الهجرة القسرية.

الآلاف من الشباب يركب سنويا قوارب البوليستر وغيرها ليبلغ الضفة الأخرى، حيث الحلم يسرح لاصطياد فراشات النجاح.

هذا الشباب العالم بأن مسألة وصوله حتمية لكن مكان وصوله غير معلوم، فقد يكون جنة الشمال المنشودة أو قيعان البحر المتوسط المفترسة، يحمل أجساده وأرواحه المنهكة برغم ذلك ويصرّ على مواجهة المجهول وشقّ عباب البحر الغادر.

الكثير من الشباب الآخر لا يمتلك هذه الشجاعة في رهن الحياة لكنه ينبّش عن طريقة للالتفاف، أقل مغامراتية وأكثر واقعية، وبرغم أن جواز السفر الجزائري لا يتيح فرصا كثيرة لولوج دول من دون فيزا إلا أنه يتجاسر ويهاجر إلى الإكوادور أو ماليزيا أو حتى لدول أفريقية أخرى، وإذا ما حدث وناقشت خياراته يقول ”ترانزيت بركْ”
حيلة سافرة وبريئة لابتكار الحياة المتخيّلة في ظل أفق حالك ومسدود..

حدس قوي بأن الهزيمة المدوّية على وشك الوقوع وأن الفأس على حافة الرأس يجعلهم يسارعون لمحاولة استباق ذلك. هؤلاء الذين يشاهدون ويسمعون ويقرؤون عن المسؤولين وأبنائهم وبذخهم وبهرجتهم ولصوصيتهم وانعدام إنسانيتهم يشعرون بشناعة الفرق وحدّة القرف وهجرتهم هذه، شكل من أشكال التنديد القوي بهذا الواقع التعس..

منذ حوالي شهر، شاع خبر اضطرار “الدولة” لدفع مبلغ 15 مليون دج (1.5 مليار سنتيم) للوزير والسفير السابق “سليمان الشيخ” ابن الشاعر الثوري الملحمي مفدي زكريا نظير تنازله عن حقوق النشيد الوطني -المؤلف من قبل والده- للدولة الجزائرية، رغم أن عائلة الملحن المصري محمد فوزي نفسها لم تفعل ذلك ولم تطلب مبلغا نظير التنازل.

سلوك الوزير السابق يُلقي الضوء على قناعات أغلب المسؤولين الجزائريين، المقربين من دوائر الحكم والعارفين بخبايا السلطة، والذين يدركون أن خزينة البلاد تُعَامل مثل بقرة حلوب سائبة في أعراف المتنفذين المتسابقين لبلوغ مراتب سامية في الفساد..

السفير السابق، لإذن، فكر في أن هذا المبلغ إن لم يستفد منه هو (وهو حق مشروع) فلن تستفيد منه الدولة بالمفهوم المؤسساتي وأنه سيذهب غالبا لجيوب المفترسين، تاركين فئات المجتمع الأخرى في صراع مفتوح مع الشظف والخيبات.

السواد الأعظم من المسؤولين الجزائريين يكرهون الجزائر أشدّ الكره، وإذا ما حدث وأن تضاربت مصالحهم مع مصالح الوطن العليا فهم مستعدون للتحالف مع تنظيم القاعدة وداعش لضرب البلاد.. على هذا الأساس ينبغي تفهم كل طرق وأساليب الشباب تحديدا في الالتفاف على قساوة واقعهم، لاستنبات أمل في حديقة أخرى وللرقص تحت وضاءة الحياة فوق مسرح آخر.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version