طرقت بيدها على الباب مرة تلو أخرى ثم سقطت أمامه تبكي، ثم فجأة سمعت صوت عصا على تلك السلالم الهرمة كروحها، صوت شخص ما يصعد، لم تستطع الوقوف فهيَّ ترتعش بكل ما فيها حتى صوتها وكلماتها متلعثمة لا تُعني شيء، ثم جاءت كلمات أحدهم من خلفها “أكانت طرقتان على الباب؛ أهذا يكفيكِ؟ والله إنكِ لبخيلة”..
التفتت لترى امرأة إنها يومًا كانت جميلة وما زالت لولا ساقاها اللتان لا تساعدانها على الوقوف وعيناها اللتان يبدو أن ضوءهما انطفأ، فاتخذت من العصا مُتكأً بصوت خافت ومرتعش منها: “كيف تتهمينني بالبخل؟”..
ضحكت السيدة كما لم تضحك يومًا ثم قالت باستهزاء “ألم أقل لكِ بخيلة؟ كل ما أهمكِ من كلماتي نظرتي لكِ أنتِ عمياء وعاجزة كتلك العينين والساقين الذين أملكهما”..
بكت الفتاة وصرخت بوجهها؛ “أنتِ لا تعلمين ما بي؟ ولا تعرفينني ابتعدي عني”..
تنهدت السيدة بهدوء ثم قالت: “أفقدتِ ساقيكِ يا فتاة أم عينيكِ أم ماذا؟ هكذا هو البخيل على نفسه لن يجد من يغنيه، كيف وهو محروم؟ والله هذا المحروم هو الذي حرم نفسه بنفسه لا آخر، أنتِ لم تدركين بعد من أنا ومن أنتِ وما هذا الباب؟ أليس كذلك؟ على كل حال الكل يرحل حتى أنتِ أما الباب فهو باقٍ إما أن يكون لكِ يومًا منه نصيب وتركني عليه، وإما ترحلين عنه فيرحل عنكِ وتموتين محرومة..
يا فتاة؛ كل ما عليكِ هو فقط طرق هذا الباب حتى تعلمي ما بكِ، فهو يعلم وأنا وأنتِ لا نعلم، لتجدي الدواء والملاذ، لتركني قليلًا فإذا أواكِ فلا مأوى بعده وإذا سألتِ فمن يجيبك غيره، وإذا عجزتِ فمن يقويكِ سواه، هذا الباب إذا مللتِ منه ملَ منكِ وغضب..
يا فتاة؛ هذا الباب لا تعلمين ما خلفه لو فقط تعلمين ما أعلم عنه لما كنتِ الآن تزحزحين ساقيكِ وأنا هنا أتكِئ على عصاي ولي أيضًا فيها مآرب أخرى، ولا ترين شيئًا إلا الظلام وأنا أرى الطيور والزهور والأنوار، ماذا الآن؟ أعلمتِ لماذا أنتِ بخيلة؟ أعلمتِ ماذا تستحقين”..
قالت الفتاة: “لكنه لم يُفتح لي ولن، أنا سيئة”، وبكت..
قالت السيدة: “كلنا سيئون ولو كان الباب يفتح بمدى جمالنا فهو لن يفتح أبدًا، هذا الباب يُفتح للسيئ قبل الجيد، سيده يقول كل ليلة؛ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ يا عبادي إني مُجيب قريب”..
أغمضت الفتاة عينيها ثم وضعت يديها على الباب وبدأت بالطرق وكلما زادت قوي صوتها وهدأت روحها، أما ساقيها فردت روحهما إليهما، ظلت على هذا الحال مغمضة العينين حتى سمعت هذا الصوت العذب “اللَّه أكبر، اللَّه أكبر”، خرجت من شفتيها كلمتين هو حقًا كذلك..
رحلت السيدة ولم تشعر هي بها ولم تسمع صوت العصا، ثم فتح الباب ليقول لها رجل: “اتخذي لكِ ركنًا يا فتاة وخذي هذا المفتاح لتغلقي خلفكِ واتركيه لأجلي جانبًا واسرعي لتنالي رزقكِ”..
أدخلت الفتاة قدم بعد أخرى في عناء وجلست فأغمضت عينيها ثم قالت “اللهم إني أحبك ياللَّه فأحبني وإني عمياء فأبصرني وإني عاجزة فقويني واجعل بابك ملاذي وهب لي متكأ”، على الجانب الآخر كانت السيدة تجلس في ركنها المعتاد تبكي وتقول ككل يوم “واغفر لي لألقاك”..