مما لا شكَّ فيه أن للبيئة دورها الفعال في بناء الأفراد وتكوين ثقافاتهم وذهنياتهم، ولها دورها البارز أيضا في التعليم والتعلّم، ودعوني الآن أنقل لكم تجربتي في التعليم واختلافها بين الريف والمدينة.
قبل ذلك إليكم طبيعة الريف الذي سأتحدث عنه: عبارة عن قرية صغيرة، قليلة السكان، متباعدة البيوت، تفتقر لأبسط مقومات الحياة رغم قربها من المدينة.. فلا غاز طبيعي استفاد منه السكان، ولا نقل حضاري، ولا مرافق عمومية إلا مستوصف بسيط تسيّره ممرضة، ومدرسة متهالكة البنيان حتى أنها مفتوحة على مصراعيها ضعف تغطية شبكات الاتصال، وعدم تزويد المنطقة بشبكة الأنترنت.
عملت بالمنطقة معلمة في المدرسة الابتدائية لموسمين متتاليين، ثم انتقلت للعمل في المدينة حيث عملت -لحد الآن- موسما واحدا ولكن استطعت أن ألحظ الفرق بين التعليم في المنطقتين:
1. على مستوى التلاميذ:
تلاميذ الريف
تلاميذ الريف بسطاء في تعاملهم مع الآخرين، ذَوُوا ثقافة محدودة؛ فبينما يستغل المعلم في المدينة ثقافة التلميذ في تعليمه، يسعى المعلّم في الريف لتثقيف التلاميذ.
وتحضرني هنا مواقف عديدة مررت بها، ولعلّ أبرزها أن أغلب التلاميذ في الريف لم يشاهدوا حاسوبا محمولا من قبل، ففي أول مرة أخذت حاسوبي كان الانبهار جَليًّا على ملامحهم، بل إن أحدهم ظلّ يسألني عنه كثيرا.
وفي مرة أخرى كنت قد ذكرت لفظة “البهلواني” أمامهم فاستغربوا من اللفظة وراحوا يستفسرون عنها، وحين وضحتها تبيّن أن لا أحد منهم يعرفه!
بل قد يواجه المعلم أمورا أعقد كأن يعجز عن إيصال فكرة “الشارع” أو “الحي” بحكم أن البيوت في الريف متباعدة!
كما أن أطفال الريف يغلب عليهم طابع الخجل الذي يكون أحيانا سببا في عدم التحصيل الدراسي الجيد؛ غير أن ما يُحسَبُ لصالحهم هو التواضع والاحترام الشديد اللّذين يظهرونه للمعلّم، بل يصلون لدرجة تقديسه!
وبالتالي يكونون رهن إشارته، أبسط الأشياء تبهرهم، وأبسط الأشياء تسعدهم كأن يلتقط المعلم لأحدهم صورة! كما نجد أن البراءة تطغى عليهم حتى أولئك الذين قد بلغوا الثانية عشر من العمر وهذا ما أبهرني -حقيقة- طيلة عملي هناك.
تلاميذ المدينة
أمّا تلاميذ المدينة فالتعامل معهم صعبٌ قليلا، فنجد أغلبهم مغترّا بمستوى عائلته المادي، أو بمكانة والديه الاجتماعية.
يَغلِب طابع الكِبْر -ولا تستغربوا من ذلك فكلامي عن تجربة- على نسبة كبيرة منهم خاصة أولئك الذين وصلوا لسنوات متقدمة (السنة الرابعة والخامسة).
كما تقلّ بينهم نسبة احترام المعلّمين (وخاصة معلّمو الأقسام الأخرى) مما يدفع المعلم إلى فرض عقوبات قد تكون قاسية أحيانا، بل يجب أن يكون صارما معهم في أغلب الأحيان.
بينما يعتمد أطفال الريف اعتمادا كليا على ما يقدمه المعلم في القسم من معارف؛ ينهل تلميذ المدينة من عدة مصادر: ما يقدمه المعلم، ما يقدمه الوالدان أو أحد الأقارب، ما يقدمه معلم الدروس الخصوصية -غالبا- وهذا يخلط الأمور على التلميذ.
وقد مررت بموقف مشابه: إذ أن أحد التلاميذ متوسطي المستوى اختلطت عليه طريقة الحساب حيث علمته الحساب بطريقة، وعلمته أمه بطريقة أخرى فضيّع كليهما مما اضطرني لشرح طريقتي لوالدته!
أما ما يُحسَب لصالحهم فهو ثقافتهم المتنوعة واطّلاعهم على أمور كثيرة تُسَهِّل على المعلّم وتدفعه لمنحهم أمورا أكثر مما فُرض عليهم؛ وبالتالي يساهم ذلك في رفع مستوى التعليم للتلاميذ.
- جبل التروبيك.. الحلقة المفقودة في أزمة الرباط ومدريد
- الذات بلا مغالاة
- فاجعة طنجة.. “من سيُضمد في آخر الصيد جرح الغزال”؟
- ضِفافُ العاطفة على بحار العقول – عندما سألت العرَّافة جبران خليل جبران
- غليانُ الشُّعُور عبر النظرة الفكرية العالمية
2. على مستوى الأولياء
الأولياء في الريف
الأولياء في الريف كأبنائهم بسطاء متواضعون، يرفعون من قدر المعلم ويعطونه مكانته التي يستحقها.
كما يتركون له حرية التصرف في تعليم أطفالهم، يقولون بصريح العبارة للمعلم: “المهم عندنا أن يتعلّم أبناؤنا، فاستعمل أيّ طريقة تراها مناسبة لذلك وإن تحتم عليك الأمر استعمل الضرب كأداة مساعدة لذلك!”..
وطيلة عملي في الريف لم أواجه مشكلة أبدا مع أيّ وليٍّ، وكلما قمت باستدعاء أحدهم تزيدني كلماته إصرارا على منح الكثير للتلاميذ بفضل الثقة الممنوحة لي؛ ربما المشكلة الوحيدة هو انتشار الأمية بينهم مما يشكل عائقا دونهم في مساعدة أبنائهم في مراجعة الدروس.
الأولياء في المدينة
أما الأولياء في المدينة فأغلبهم مغترٌّ بالمستوى المادي والمكانة الاجتماعية، يحاسبون المعلم على الشاردة والواردة بعلم وبجهل.
ودعوني أضرب أمثلة هنا:
أتتني وليّة أمر تناقشني بحدّة لأنّي غيّرت وضعية مبرمجة في كتاب التلميذ الخاص بمادة الرياضيات بوضعية أبسط!
وأخرى انتقدتني انتقادا حادّا لأنّي أتواصل مع تلاميذي في القسم بالعربية الفصحى!
وكثر جاؤوا يجادلونني في مكان جلوس أبنائهم!
وصراحة الأمثلة لا حصر لها، ولعلّ الأمثلة التي ضربتها قد أوصلت الفكرة قليلا، أي أنّ أغلب الأولياء في المدينة يقفون ندًّا للمعلّم لا سندا (طبعا هناك فئة قليلة تساند المعلم وتترك له الحرية في التعليم خاصة إذا كان صاحب ضمير حيّ).
أمّا ما يحسَب لصالحهم فهو مساعدة الأبناء في المراجعة بحكم أنّ الغالبية منهم متعلّمون.
3. على مستوى الطاقمين: التربوي والإداري
لا اختلاف في ذلك بين المنطقتين، فالضمير وحده من يتحكم في زمام الأمور سواء: داخل المدينة، أو خارجها، إذ أنه الوحيد الذي يحدّد درجة الإخلاص في العمل، فصاحب الضمير الحي لا ينتظر أمرًا ممن هم أعلى رتبة منه ليعمل، ومن مات ضميره لا تحرّكه رقابة المسؤولين بأيّ حال من الأحوال!
4. على مستوى الهياكل المادية
أجد أنه من الإجحاف أن أقارن بين المنطقتين في هذا المجال فالموارد المادية المقدمة في المدينة تفوق ما يقدم في الريف بأضعاف!
في المدرسة الريفية التي عملت بها كان الوضع كارثيا: ففي الموسم الأول كانت المدرسة بلا أسوار بل حتى أبواب الأقسام كانت غير صالحة!
وأذكر أنّي واجهت العديد من المشاكل جرّاء ذلك ففي كثير من الأحيان كانت بعض الحيوانات تجول في فناء المدرسة! ناهيك عن الحالة المزرية للأقسام.
أمّا بالنسبة للخدمات المختلفة فحدّث ولاحرج:
نقص كبير في التغذية المدرسية، غياب كبير للتدفئة وأذكر أنه في كثير من الأيام كنّا نبقى النهار بطوله بدون تدفئة حتى أننا في مرة من المرات لم نستطع حتى إمساك الأقلام من شدة البرد!
علما أن المدافئ تقليدية ومعطلة وقد انفجرت كم من مرة ولحسن الحظ لم يصب أحد بأذى.
غياب النقل المدرسي فكثيرا ما تنقل الأطفال مشيا على الأقدام لمسافات طويلة.
وكذا الغياب التام للنشاطات الثقافية وحتى لو كان هناك سعي من الطاقم توجد عراقيل أخرى، وأذكر أني حاولت مرة أن أوفر لهم فرصة مشاهدة عرض البهلواني وسعيت لذلك وحين وجدت تسهيلات من الإدراة رفضت الجمعية القدوم للريف بحجة أن عدد التلاميذ قليل وما يدفعونه لن يغطي مصاريف التنقل!
ودعوني أخبركم أيضا أنّ المدرسة في الموسم الأول كانت بلا حارس، ومن كان يقوم بدور الحراسة النهارية هو عامل النظافة!
أما في الموسم الثاني فتم ترميم المدرسة ولكن مع ذلك بقيت الخدمات المقدمة من طرف البلدية مجحفة.
وبالعودة للمدارس في المدينة فإن النقائص تكاد لا تذكر مقارنة بما سبق، سواء ما تعلق بالهيكل العام للمدرسة أو بالخدمات المقدمة.