هل التفاوت الاقتصادي مشكلة حقا؟
نعم، لكن الإجابة أعقد مما قد تظن.
من المستحيل تجاهل التفاوتات الصارخة في الدخل والثروة السائدة في البلد، وسوادنا الأعظم منزعج من هذا الوضع.
لكن، هل التفاوت الاقتصادي هو ما يزعجنا حقا؟
في مقال مؤثر، نشر سنة 1987، يشير الفيلسوف هاري فرانكفورت إلى أننا أسأنا تحديد المشكل.
يجادل الأستاذ فرانكفورت بأنه لا يهم ما إذا كان بعض الأشخاص يملكون أقل من البعض الآخر؛ ما يهم حقا هو أن البعض ليس لهم مايكفي: افتقارهم للدخل الكافي، وعلى مورد هزيل أو يعدمونه.
ينضاف لذلك انعدام السكن اللائق، الرعاية الصحية، بل حتى التعليم اللائق. ولو كان لأشد الناس فقرا موارد كافية تضمن لهم حياة جيدة ومرضية، فإنه حينئذ لن تشكل حقيقة امتلاك غيرهم لموارد أكبر مشكلا.
عندما لا يتوفر البعض على مايكفي وينعم البعض الآخر بأكثر مما يحتاجونه بكثير، يكون من السهل الاستنتاج بأن المشكلة تكمن في اللامساواة.
لكن هذا، حسب ذ. فرانكفورت، غير صحيح؛ إذ ليس التفاوت مشكلة في حد ذاته، بل في الفقر والحرمان الذي يقاسيه المُعدمون.
لم يقنع مقال الأستاذ فرانكفورت جميع زملائه الفلاسفة، حيث بقي العديد منهم من أنصار المساواة، لكن تحديه استمر صداه دون توقف.
وفي سنة 2015، بالرغم من تزايد المخاوف بشأن التفاوت الاقتصادي في كثير من أقطار المجتمع، نشر كتابا موجزا يعيد فيه التأكيد على موقفه.
على ما يبدو، فإن للأستاذ فرانكفورت وجهة نظر؛ فأولئك الذين يتربعون على نسبة 10٪ من التوزيع الاقتصادي الأمريكي في وضع مريح للغاية، والذين هم في قمة 1٪ في وضع أكثر رفاها من التسعة الباقين، لكن قلة من الناس فقط يرون مشكلة في هذا النوع من التفاوت.
تزعجنا اللامساواة غالبا، على ما يبدو، فقط عندما يكون البعض فاحش الثراء والبعض الآخر في فقر مدقع.
علاوة على ذلك، لن يكون تحسنا في شيء سحب الجميع لمستوى هؤلاء المعدمين. ستعم المساواة حينئذ، لكن المساواة في البؤس ليست بالفكرة المثالية التي تستحق الكفاح من أجلها.
ربما ينبغي إذن ألا نعترض على التفاوت الاقتصادي بحد ذاته، ونحاول، بدلا من ذلك، تحسين وضع أولئك الذين ليس لهم ما يكفي.
علينا العمل على القضاء على الفقر، الجوع، التعليم الرديء، السكن غير اللائق والرعاية الصحية غير الكافية، دون أن نجعل من القضاء على التفاوت هدفنا.
هل هذه هي النتيجة الصحيحة؟ لا أظن ذلك. إن التفاوت الاقتصادي على غاية من الأهمية، سواء كان يهم “في حد ذاته” أم لا.
لنبدأ بالنظر في نقطتين، والتي سيوافق عليهما الأستاذ فرانكفورت نفسه.
الأولى: حتى نتمكن من القضاء على الفقر وضمان الظروف اللائقة للعيش لجميع الأمريكيين، سيستلزم ذلك رفع الضرائب على الأغنياء بشكل ملحوظ.
رغم أن الغاية النهائية ليست التقليص من التفاوت، إلا أن الأثر غير المباشر سيكون القيام بذلك تماما. لذلك، فحتى إن لم يكن التفاوت مشكلة في حد ذاته فإن مما لاشك فيه أن تقليصه جزء من الحل.
ثانيا : حتى إن لم يكن التفاوت الاقتصادي مشكلة في حد ذاته، يمكن أن تكون له مع ذلك آثار سيئة.
التفاوتات الكبيرة في الدخل وفي الثروة، على الشكل الذي نراه في الولايات المتحدة اليوم، قد تكون له آثار ضارة وإن لم يكن أحد في عوز تام.
مثلا: الأغنياء قد تكون لهم القدرة على ممارسة نسبة تأثير سياسي غير متكافئة، وعلى تشكيل المجتمع وفق ما يتلاءم مع مصالحهم.
ربما يستطيعون صياغة القانون ليخدمهم دون غيرهم. هكذا، يقوضون سيادة القانون. التفاوت الاقتصادي المفرط قد يحول الديمقراطية إلى بلوتوقراطية؛ أي إلى مجتمع حيث يحكم الأغنياء.
التفاوتات الكبيرة في الثروات الموروثة قد تكون مضرة بشكل خاص، حيث تؤدي لإنشاء نظام اقتصادي طبقي يمنع الحراك الاجتماعي وتقلل من تكافؤ الفرص.
كما أن اللامساواة المفرطة قد تترتب عنها كذلك آثار خفية وأخبث، تطفو للسطح عندما يكون الأقل امتلاكا يفتقرون للموارد الكافية، لكنها قد تستمر حتى عندما يمتلك الجميع مايكفيه.
قد يقنع الأغنياء أنفسهم باستحقاقهم لثرواتهم الضخمة، ويعززون موقف الاستحقاق والامتياز. في حين، أن اولئك الفقراء، الذين لهم أقل، قد يطورون مشاعر الدونية والإذعان من ناحية، ثم مشاعر العداء والاستياء من ناحية أخرى.
هكذا يؤدي التفاوت المفرط لتشويه صورة الأفراد عن أنفسهم، ويهدد علاقاتهم ببعضهم البعض.
يأخذنا هذا نحو نقطة أكثر جذرية. يرى الفيلسوف السياسي الكبير جون راولز أن المجتمع الليبيرالي ينبغي أن يُعرَّف كنظام عادل للتعاون بين الأشخاص الأحرار والمتساوين. ويبدو أننا غالبا ما ننحو لرؤية أنفسنا هكذا.
نحن نعرف أن مجتمعنا كان دائما ما يفسده الظلم الغاشم، بداية مع الكارثة الأخلاقية الممثلة في العبودية، غير أننا نطمح لإنشاء مجتمع المتساوين، ونحن فخورون بالخطوات التي خطونها نحو هذه الغاية.
لكن التفاوت المفرط يسخر من طموحنا؛ إذ لا معنى لمجتمع موسوم بالتفاوتات المذهلة في الدخل والثروة، والتي تصاعدت في الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة، حيث لا يستطيع كل المواطنين، أغنياء وفقراء، أن يربطوا علاقات مع بعضهم البعض على قدم المساواة.
حتى إن قضينا على الفقر وكان لكل فرد ما يكفي لعيش حياة لائقة، لن يحول ذلك بذاته المواطنة الأمريكية إلى علاقة بين المتساوين؛ ذلك أن هنالك حدا لدرجة التفاوت الاقتصادي التي تتوافق مع فكرة مجتمع المتساوين، بغض النظر عن النقاش الدائر حول موقع الحد تحديدا، مما لاشك فيه أننا تجاوزناه منذ مدة طويلة.
التفاوت الاقتصادي وأهميته
إذا كان التفاوت الاقصادي الحاد يقوض فكرة (مثالية) مجتمع المتساوين، فهل هذا أحد آثاره السلبية، مثل تأثيره المفسد على العملية السياسية؟ أم أنه، بدلا من ذلك، ببساطة، هو ما يجعل التفاوت الاقتصادي على هذه الأهمية؟
من زاوية عملية، فإن أي إجابة نقدمها لا تصنع فارقا كبيرا. في جميع الحالات، تتمتع الضرورة التي أشار إليها ذ.فرانكفورت (ضرورة ضمان حصول جميع المواطنين على الموارد الكافية لعيش حياة لائقة) بالأهمية القصوى.
من المفزع حقا كيف أن كثيرا من الأشخاص لا ينعمون بالعيش اللائق، بل ويتنامى هذا الوضع، في بلد غني كبلدنا. ينضاف لذلك نقص التغذية، الرعاية الصحية، التعليم وعدم التمتع بالامتيازات الكاملة لسيادة القانون.
لكن معالجة ضرورة ذ. فرانكفورت لوحدها ليست كافية. التفاوت الاقتصادي الحاد، سواء كان يهم بذاته أو “لمجرد” تداعياته، خبيث. إنه يهدد بتحويلنا من الديمقراطية إلى البلوتوقراطية، ويجعل من من فكرة المواطنة المتساوية، سخرية.
إذا كانت، كما يقال، كل أزمة هي فرصة، فإن أمريكا اليوم هي حقا أرض الفرص. أحد أكثر الفرص التي تتيحها لنا لنا أزمتنا الحالية، كأكثر الأمور أساسية، هي فرصة إعادة التفكير في تصورنا عن أنفسنا كمجتمع.
قدما نحو الأمام، ينبغي أن نقرر ما إذا كنا نرغب في أن نبني أنفسنا كمجتمع أصيل للمتساوين أم أنه، بدلا من ذلك، نقنع أنفسنا بتنظيم علاقاتنا مع بعضنا البعض بتسلسل هرمي اقتصادي واجتماعي صارخ، وقاس.
Samuel sheffler, Is economic inequality really a problem?
ترجمة: محمد التايك