حدث معي موقف مع مترجمة ممتازة وهبها الله ذائقة لغوية للغة العربية وفهمًا واضحًا للغة الإنكليزية يُشهد لهما، تعاقدت معها بحكم عملي وقتئذ على ترجمة كتاب كان بمثابة الكتاب الخامس على ما أتذكر في سلسلة تعاوننا، وكنت أرتاح للتعاون معها، فقد فهمنا عقليات بعضنا البعض، إذ تفهمتْ متطلبات العمل ولمستُ إتقانها حرفتها وهي الترجمة..
كنت أتشوق لمراجعة ما تترجم لأسعد بلغتها، غير أنها هذه المرة لم توافق توقعاتي وظننت أنها ليست هي من ترجمت، فأفزعني ذلك، ولما رجعت لها لمراجعتها في ما وقع بالأمثلة تأسفت بشدة وقالت لي بالحرف: “سامحيني عقلي مش فيَّ، وعندي مشاكل زوجية”..
التمست لها العُذر ظاهريًّا؛ لكنني كنت مغتاظة في نفسي جدًّا وكنت أتعجب، لمَ لم تعتذر عن ترجمة الكتاب ما دامت ظروفها غير مواتية، وقلت في نفسي: “ألهذه الدرجة عطلت ظروفها عقلها وقللت أداءها؛ إذ كيف لها بهذه الأخطاء غير المتوقعة”!.
وكان ردي عليها عمليًّا جدًّا بعدما دعوت لها بصلاح الأحوال بأن أخبرتها بأن معالجة الموقف لا بد أن تكون بمراجعة ترجمة الكتاب فتعهدتْ بمراجعة الترجمة حتى صارت على ما يُرام.
فاجأتني صديقتي بعدما راجعت ترجمة الكتاب بزلاتي وهفواتي فسترتني- حفظها الله- فسددت هفواتي وأصلحت زلاتي حتى صارت ترجمة الكتاب على ما يرام
وعاودتُ التعاون معها مرات ومرات؛ لكن ظل هذا الموقف في خلفية رأسي يطاردني ويثير تعجبي، وأُوشك أن أُذكرها به خشية أن يتكرر عند التعاقد معها، لكن أتراجع خشية تذكيرها بما يعكر صفوها ويقلِّب عليها ما تكرهه نفسها خاصة وهي ضليعة، فأحاول أن أتعامل مع الأمر بمهنية لا تخلو من إنسانية، فأُسكت وساوسي وأحاول محو ما حدث من رأسي على أساس أن الخطأ وارد لكن التصحيح واجب.
مر ما يقرب من عشر سنوات على هذا الموقف حتى تعاقدتْ معي أخيرا جهة أجنبية على ترجمة كتاب رأيته يخدم رسالتي في الحياة، بجانب عملي بدوام كامل الذي بدأت تظهر به مشاكل، فكان ذلك بمثابة الإشارة لي للتفرغ لمهنتي التي أود تطويعها لرسالتي والانتهاء من وظيفتي وقيودها التي تستنزف وقتي ومجهودي، بل وأضحت تتشوه من خلالها رسالتي، وما إن شرعت في ترجمة الكتاب حتى تفاقمت المشاكل ومكروا لي في عملي فمكر لي الله والحمد لله؛ بيد أن بين المكرين عشتُ ظروفًا صعبة للغاية على مدى ما يقرب من ثلاثة أشهر متزامنة مع أزمة كورونا..
عشت أيامًا وليالي ذهب فيها عني النوم واستحوذ الذهول على عقلي من هول انكشاف أقنعة المدعين من أصحاب القرار لي، إذ رأيتهم يقولون ما لا يفعلون، ويعدون فيخلفون، ورأيتهم يهربون من الحق الواضح وضوح الشمس للسامع والرائي ويناصرون الباطل، وكنت كالمطعونة من الخلف بسكين الغدر المُلطخ بحب المال والدنيا، وكنت أستقوي بحرفتي وهي الترجمة فاتخذت من ترجمة الكتاب الذي يقترب موعد تسليمه يومًا بعد يوم ملاذًا أهرب إليه من همومي، ظنًّا مني أنني بذلك أُسيطر على أزمتي وأحتويها..
لكن مع الأسف كانت همومي أكبر من السيطرة عليها، فكنت أُترجم وأنا مهمومة وعقلي مشغول، لدرجة أنني أحسست بأنني كالآلة تعمل من دون تفكير فلم أرق عند ترجمة هذا الكتاب إلى مستوى الأداء الذي يرضيني..
فالترجمة بالنسبة لي معايشة للنص الأصلي ثم إبداع النص المُترجم، لكن ظروفي الصعبة لم تتح لي المعايشة الكاملة ولا الإبداع المُرضي، فطلبت من صديقة عزيزة أن تراجع ما ترجمت لمجرد إحساسي بأنني لست بكامل قواي العقلية ولا أُدرك هفواتي أو زلاتي التي عادة ما يكتشفها المترجم نفسه عندما يراجع نصه المُترجم.
وفاجأتني صديقتي بعدما راجعت ترجمة الكتاب بزلاتي وهفواتي فسترتني- حفظها الله- فسددت هفواتي وأصلحت زلاتي حتى صارت ترجمة الكتاب على ما يرام.
لكن استوقفني ما صدر مني وذكرَّني بما حدث مع المترجمة منذ ما يقرب من عشر سنوات، فأدركت معنى التماس العذر لا ظاهريًّا فقط كما يبدو في عمل الجوارح من قول أو عمل، ولكن باطنيًّا أيضًا بألا يفتح الإنسان الباب لوساوس الشيطان التي تُهوِّن من معاناة غيره، فتزعزع الثقة في ما بين الناس، بل وتزرع الشك بينهم.
وقد لمست إلى أي مدى تؤثر الحالة النفسية على الأداء والكفاءة لدرجة عدم الإحساس بالخطأ، ووعيت أنه مهما استقوى الإنسان فهو في النهاية مخلوق ضعيف على الأقل أمام جنود الخالق عز وجل الذين يُعد الهم أقواهم. فأدركت أن المُطلق الوحيد هو الله جل وعلا، فلا يسير شيء على وتيرة واحدة أبدًا فكل شيء يزيد وينقص حتى الإيمان.