بالرغم من الدراسات الكثيرة والمتعددة والتي كتبت حول التاريخ والحضارة الأفريقية القديمة، لا تزال بعض الجوانب في هذه الحضارة تحتاج إلى المزيد من الفحص والغريلة والنقد والإيضاح، خاصة في الجانب المتعلق بإسهامات الأفارقة في بناء وتشيد الحضارة الإنسانية ودعوى أن العنصر الأفريقي لم يكن جزء منها.
ولذلك فإنه من الضروري إعادة قراءة المسار التاريخي والحضاري للقارة بعيون نقدية فاحصة ومدققة في المعطيات والمعلومات التي تقدمها الكتابات الأجنبية حول الموضوع؛ وخاصة الكتابات الغربية.
إذ نجد أن جل المعلومات التي جاءت في كتابات هؤلاء، والتي أصبحت من البديهيات بفعل كثرة ترددها ويقع فيها أحيانا بعض الناس السذج، هي معلومات لا وجود لها على أرض الواقع وذلك في ظل الأطاريح والنتائج التي توصلت إليها الأبحاث والدراسات العلمية الأميربقية الحديثة، في شتى المجالات المتعلقة بحضارة القارة الأفريقية.
لقد ساد الاعتقاد والتوهم طيلة العهود الماضية، لدى الأغلبية الساحقة من المهتمين والباحثين في الحضارة الإنسانية القديمة، بأن وجود حضارة وتاريخ العنصر الأفريقي هو حديث العهد أو أصلا لا وجود له، أو أنه لا وجود للحضارة الأفريقية خارج الحضارة العربية الإسلامية أو الحضارة الفرنكفونية أو الأنجلفونية في تصور واعتقاد هؤلاء الباحثين والمهتمين.
بل أكثر من ذلك، هناك من يزعم أن مسألة إعادة كتابة تاريخ أفريقيا، وخاصة فترة ما قبل الفتح العربي الإسلامي للمنطقة، ما هي إلا محاولة تبوء بالفشل.
إن الحضارة الإنسانية قد شكل فيها الإنسان الأفريقي أحد أبرز عناصرها على الإطلاق، ولذلك فلا يمكن لنا الحديث عن هذه الحضارة دون التطرق إلى إسهامات أفريقية في صياغة هذه الحضارة الأفريقية التي ما زال يشوبها الكثير من الغموض والالتباس، بالرغم من المجهودات التي بذلها مؤرخون وباحثون أفارقة خلال العهود الحديثة والمعاصرة.
إن الدور الرئيسي الذي لعبه الإنسان الأفريقي في تشكيل تقاسيم وتفاصيل الحضارة العالمية. كما تؤكد لنا ذلك العديد من الدراسات الأثرية والبنيوبة الحديثة، ليس نابعا من كونه يعتبر من أقدم الشعوب التي عرفها العالم القديم فقط، وإنما لكون كذلك أن بلاده هي التي احتضنت الإرهاصات الأولى لظهور هذه الحضارة، وبالتالي كل ما سينتج عنها من تفاعلات حادة، وصراعات متعددة الأطراف.
طبعا، هذه النظرية لا أساس لها من الصحة من الناحية العلمية؛ نقصد هنا النظرية التي تقول بأن تواجد الإنسان الأفريقي هو تواجد حديث، فالعلوم الإنسانية الحديثة وعلى رأسها الدراسات الأثرية والأنثروبولوجية والبنيوية اللغوية تثبت لنا بالحجة الدامغة والتحليل المنطقي نقطة في غاية الأهمية فيما نحن بصدد الحديث عنه في هذه المساهمة المتواضعة، وهي أن قارة أفريقيا عرفت وجود الإنسان مند فجر التاريخ، قبل أن يوجد في العديد من المناطق الأخرى من العالم، وخاصة في منطقة الشرق والجنوب الأفريقي تحديدا.
ففي سنة 2001 تم العثور عن بقايا إنسان في صحراء شمال التشاد، التي تعيد التقديرات الأولية عمرها إلى حوالي ستة ملايين سنة..
ومن بين المعطيات والحقائق التاريخية أيضا، التي تؤكدها مختلف الدراسات الحديثة حول التاريخ القديم لأفريقيا، هي أن القارة من أوائل الدول أو المناطق التي شهدت حضارة مزدهرة ومتطورة في الحقب الزمنية العابرة، وأسست دولا وممالك وأنظمة سياسية محلية.
فقد أنتجت أفريقيا حضارة الحبشة التي سيطرت ردحا من الزمن على بلاد اليمن وأطرافها، وحضارة الفراعنة والأهرامات، وحضارة النيل والسودان القديمة، كما ولدت حضارات في الشمال وممالك وإمبراطوريات قديمة في شرق أفريقيا وغربها مثل مملكة الكانم والبرنو في بحيرة تشاد، وممالك غانا ومالي سونغهاي في حوض نهر النيجر، ومملكة تكرور في نهر السنغال وغيرها من الممالك الضاربة في أعماق القدم في أفريقيا.
انطلاقا من هذا، نرى أن محاولة بعض المؤرخين الغرب ومن على شاكلتهم استبعادهم للحضارة الأفريقية من دائرة الحضارات القديمة، لا يتناقض فقط مع الحقائق التاريخية التي أثبتتها الدراسات الحديثة فحسب، بقدر ما أنهم يحاولون أيضا تجاوز العقل والمنطق في معالجتهم للموضوع، نتيجة التزوير والتزييف الأيديولوجي أو التجاهل المتعمد المستمر لمساهمة الأفارقة الجليلة في الحضارة الإنسانية، والذي يمارسه معظم الباحثين والدارسين الغرب لتاريخ وحضارة قارة أفريقيا.
تماما كما فعل العديد من الباحثبن الأروبيين والمستفرقين في دراساتهم حول تاريخ وحضارة العالم، والتي تعج بالتناقضات والمغالطات التاريخية الفادحة حول أصل الشعوب الأفريقية وتاريخها والتي كانت تطغى عليها نظريات أيديولوجية.
لعل ما سبق من ملاحظات يؤدى بنا إلى الطرح الإشكالي التالي:
وهو كيف سنعيد كتابة تاريخ أفريقيا في ظل العصور الراهنة؟ وما دور الأفارقة المثقفين في هذا العصر في تصحيح بعض المغالطات التاريخية حول أفريقيا وإعادة فراءتها في ظل صراع الحضارات؟
لقد برهن كثير من الكتاب والمؤرخين الأفارفة وبعض الباحثين الغرب المنصفين؛ أن أفريقيا هي أصل الحضارات وذلك بأدلة وبراهين علمية تاريخية وانثربولوحية اجتماعية على غرار المؤرخ القديم هيرودوت والمؤرخ البريطاني مارتن برنال في كتابه (أثينا السوداء: الجذور الأفرو آسيوية للحضارات الكلاسيكية).
ويعتبر هذا الكتاب بمثابة دعوة لإنصاف الحضارة الأفريقية القديمة وإعادة تشكيل العقلية الحديثة..، فالمركزية الأوربية جعلت من أوربا منبعا لكل إبداع فكري حضاري.
وكذلك العالم الأفريقي “الشيخ انتا ديوب” في أطروحاته العلمية وخاصة في كتابه “الأصول الأفريقية للحضارة المصرية”، الذي ينطلق الباحث السنغالي بأن الحضارة الأفريقية هي الأقدم وأثرت إيجابا في الحضارات الأخرى دون أن تُعطى نصيبها من الاعتراف.
ففي ظل السياقات العامة للدراسات الراهنة وصراع الحضارات والثقافات، وخاصة على المستوي السياسي الإيديولوجي، حيث ما زال توظيف الأيديولوجيا سائدا بقوة في العمل السياسي والفكري، وكذلك في كتابة وتدوين التاريخ الوطني، لكن في ظل سياقات متغيرة، حيث حلت محل السيف والرمح في مشروع الغزو الغربي لبلاد الأفارقة، مما يعني أن هذا المشروع ما زال قائما ومستمرا إلى يومنا هذا؛ فالغزو هنا هو غزو ثقافي وفكري ولغوي بالدرجة الأولى.
ما زال الاهتمام العام حول إعادة كتابة تاريخ أفريقيا يدور حول رؤى المؤرخين الأفارقة ومشروعاتهم الفكرية، ووفق الضرورات السياسية، ومن ثم نجد أننا إزاء مشروع خطابات سياسية استعمارية يجب التنبه إليها، ويبدو أن البنيات الذهنية التي تصوغ وتجري فيما وراء هذا الخطاب، هي ذهنيات تقليدية غربية قومية أوربية، لهذا فإننا لسنا إزاء خطاب علمي تاريخي محض.
ويعتبر هذا المعطى أحد أهم وأبرز النقاط الهامة التي يجب أن تكون حول ضرورة الوعي وإعادة كتابة التاريخ الأفريقي وحضارته وصياغته بشكل علمي نزيه بعيد عن النظريات المؤدلجة أو لحسابات ومصالح مختلفة.