عندما خرجت من السجن، لم أستطع حتى النظر في عينيه، فما بالك بالسلام عليه، خجل ما، أكبر من كل شيء حال دون ذلك، أو هو شيء آخر أجهل كنهه، يرشح من رشمات شيبه المقدس، ومن تلك الهالة السوداء التي طوقت عيونه، وختمتها بدمغة السهر والسقم، كأن شيئًا قد انكسر داخله، شيء يصعب جبره، أعرفه جيداً، فهو والدي، أو النسخة المكبرة مني..
لحظة دخلت البيت، هرولت إلى رأس أمي، قبلته في صمت يعتذر بخجل من دموع ذرفتها من تفطنت لغيابي، حتى وصلها خبر الإفراج.. تلقفت بعد ذلك هاتف أختي وهاتفت الشقية، تلك التي لا ذنب لها سوى أن هذا الأرعن أحبها وأحبته بكامل ذراتها.. فكانت نظرات أمي المكسورة، وصوت حبيبتي المترنم حزنا، أكثر وطأة من جحيم السّجن، إذ لم أسجن أنا، بل سجنتهم معي في قوقعة الخوف، الذي زلزل كل أركان قلبيهما وعقليهما..
تذكرت، في لجج الحزن أني لم أستحم مُذ أربعة أيام، فدلفت مسرعا للحمام، وأنا كاره لنفسي، في قمة الغضب والحنق من كل شيء، وعندما انعكس وجهي في المرآة، ورأيت أساريره بعد غياب قسري في سجن العيون الأسود، كحظي العاثر، تذكرت تلك اللحظة بعينها، تلك اللحظة التي توقف فيها الزمن عن الدوران، وبدأت عقارب الساعة في وخزي بِسم المجهول، وفجأة طفت تلك للحظة وتجلت هاربة من تلافيف الذاكرة، حيث جعلتها مدفونة ومخبوءة حتى حين..
لحظتها، لا شيء جديد، مُذ ثلاث ليالٍ طوالٍ، عجافٍ، من الانحناء قسرا لذوي البذلات الزرقاء، صالحهم وطالحهم، شريفهم وحقيرهم، وكم تضم تلك البناية من حقير وما أكثر أنذالها..
لا شيء أيها الشقي، سوى سُور السجن الشاهق الشاحب الموحش، الذي رشمت تلابيبه بأسلاك شائكة، أحسست شوكها ينغرز عمق سويداء قلبي بلا هوادة، فيندلق ذلك الشعور اللزج المعفر بالعفن الذي كسى جسدي المنهك والمنتهك حد العطن، فمذ تلك الليلة المشؤومة وأنا على ذات الحال، بذات الملابس، صبح مساءٍ حتى صرت أنا وسلة القمامة سواء، حتى ظلي انطفأ في عتمة الظلام المشتعل في سجن يتسع مساحة ليضيق ضيما بالروح، الروح المسجاة على محماصة غبن والمراقة حريتها على إسفلت الزنازين، والمسحوقة في مهزاز الأصفاد الصدأة..
في السجن تتوقف عقارب الساعة عن التوقف، وتستحيل عقارب مسمومة تنخرك كلك وبعضك، يعبأ الزمن بين معقوفتين، ما قبله وما بعده، ما قبله طائر حر لا أفق لأفقه، وما بعده نسر ثائر لا شيء يسيج عنفوانه بعد أن مرغ ظلمًا في الرغام، أما ما بين الظفرين فهو يا عيني “جحيم دانتي” بعينه، وسقوط “أورفيوس” نحو العالم السفلي بكل تجلياته، نحو قاع مدينة العيون، نحو سجنها الأسود كالفحم، الموحش كالغابة، والمتناقض حد الدهشة..
طوال مدة الحبس، في الحراسة النظرية، وفِي السجن، كانت عيون الأسئلة تتدحرج على القضبان الستة عشر للزنزانة وتتسلقها، من قبو ولاية الأمن حتى ناصية الشارع، لتعود القهقرى خائبة، فتسيل على الخد حارقة، قبل أن يكفكفها كبرياء زائف مقيت، يتلفع مبادئ ظللت أقبض على جمرها، وسأظل، لكن هذه المرة، وتحت قوة قاهرة، وبين يدي عميد شرطة أنذل من آخر سكير يغادر الحانة، ها أنا مكلل بمحضر رسمي يطوق خاصرة روحي بأقراص الهلوسة، وها أنا حسب وثائق الدولة مدمن مخدرات..
إنها الصدف العمياء، والحظ الحاثر هما ما وضعاني بين يدين من وحشية ونذالة، وعلي أن أوقع ملء أصابعي، أنني مدمن أتعاطاها، وإلا وقع هو وطبع لي تأشيرة عمرها ثلاث سنوات حسب ما قال، نحو السجن، ولن ينفعني لساني الطويل أمام القاضي، ولا أمام وكيل الملك، لأن كلمتهما الأثيرة معدة سلفًا: «ذنبك على من أتى بك»..
لتظل علامة الاستفهام هنا وهناك، معلقة كالمسيح في سقف كنسية، وعلامة التعجب جنبها صامتة كأنها مريم العذراء، حين نذرت صومها أن لا تكلم إنسيا، ماذا أتى بي للهنا، وأي قدر هذا الذي رمى بي في جغرافيا الزنازين والسجون الكسيحة؟!..
ها أنا خارج تلك الجغرافيا الآن، ولَم يتبقَ من ذلك الكابوس سوى ذكراه، ذكرى من الصعب محوها، كأنها آخر قطرة تبقت في قعر كأس، لكني خرجت بمعنى للحرية لم تعطنيه الكتب والطراريس المهترئة، ومن حيث لا أدري استنتجت دراسة -مورفولوجية- شخصية خارجة من رحم السجن لكلمة “سجن”..
“السجن؛ لام لوعة للحرية، تستند على ألف ممدودة تقف كعصى غليظة تغلق قسرا ثقوب ناي الروح، والجيم جحيم حقيقي مظلم كقبر فرعوني يغص بالجثث، والنون نثار مشاعر مسيجة تناغي سرب يمام تطينت أرجله بالحياة، يرسم في الأفق موناليزا الخروج من الباب المعتوه، لتتكحل العيون بوجه أمي الصبوح، وتتعطر الروح برائحة معشوقتي الأبدية”..