… مهلاً أيها القارئ، فالحياة حياتها اثنتان، بينهما برزح لا تبغيان؛ حياة حي مطمئن يسكنه إنسان، وحياة حي خطير ساكنه مبهم، منفي، لص، طريد، عربيد، قواد، دجال، سلطوي، تاجر مخدرات قاتل، مدمن مقتول، متدين، غبي، أو بغي، ليس له من الحياة سوى العيش…
هكذا تقول الحكاية، فأي حكاية هي؟!..
ولأن محمد بنميلود، ليس شاعراً من شعار البلاط، ولا شويعراً متزلفا بقافيته، كانت أشعاره دائما ما تغمس قافيتها في وريد متمرد، فتطلع حمراء كجمر الحرية، ولأنه أيضاً كما عودنا كاتب من درجة صعلوك متمرد، له ثورية خاصة في الكتابة، ثورية تمخضت عن عمل روائي خطير للغاية حسب مقياس الأدب..
“الحي الخطير” ليست رواية تقرأ لتقرأ هكذا كأي مقروء، ولا نصاً سرديا تمرر عليه عينيك بحثا عن استئناس لحظيٍّ، ويترك على الرف يصارع الغبار إلى حين. بل هي رواية حياة، تقرأ لتعاش، هي صوت الهامش القادم من الهامش مدويا كرصاص قلم الرصاص البنميلودي الخطير، هي توثيق لحقبة زمنية غير محددة، لأنها لا تنتهي إلا لتبدأ..
إنها بالفعل مؤلف يضم بين دفتيه حياة لا تشبه الحياة، لأناس اتحدت على تهميشهم كل القوى، المرئية واللامرئية، ووضعتهم في منتبذ قصي، وجعلت من دونهم حجابا يتقمص هيئة الوادي الذي فصلت ضفتاه بين الحياة واللا حياة، فمن منا سيقرأ النص هذا، ولن يبصق بمرارة العلقم على رؤوس المخزن، حزنا على -خال مراد- الذي لم يقترف من ذنب سوى، إيمان بالحرية والانعتاق، رومنسية ثائر، وحُباً جبرانِيَّ الهوى لرفيقة ماركسية، فكان حظه موتا بلا قبرية، ولا عنوانا يتيح لتلك الأخت المفجوعة لقياه..
“الحي الخطير” ليست رواية من النوع الذي يتبجح صاحبه بلغته الطنانة، ولا يقلقل القارئ بحروف القلقلة، ولا يفجر غيظه بحروف الأبجدية الانفجارية، بل هي تساؤلات كثيرة تتمغنط داخل المتن الحكائي، بلغة ثالثة؛ تقف بحذر على أظافرها، وهي تفتح لك دفتي الحكاية لتلج أنت ذلك الحي الخطير، وتدخل عمق «براريكه» وأكواخه، لتعيش حيواتهم، وتتحلى بالحلم على أهل تلك الحياة المركونة في الهامش، الذين مسخهم بؤس الحال وسؤال الهوية إلى بشر تتحكم فيهم بهيمية النفس البشرية، هي رواية بوليفونية ( متعددة الأصوات)، يتوحد في سردها راوي/مراد عليم بمكنونات الحي، لكنه يغير نبرة صوته عند كل حكاية من حكايات شخوصها..
في لحظة تماه مع شخوص الرواية، وفي معمعان الصراعات بين العصابات الصغيرة داخل الحي، يتصارع في داخلك الغضب ممزوجا ببعض الشفقة، فتارة تجد نفسك تناصر شخصا من حبر، تحب حبه، وتكره كرهه، وأخرى تجدها تمقت شخصاً روائي المعالم، شخصا من مخيلة الكاتب، تكرهه كره العمى..
“الحي الخطير” رواية ضمت دولة قائمة الذات، من رأس الهرم حتى سفحه، بإشارات واضحة كعلامات التشوير، وإحالات للبيب فهمها، فقد استرجعت محنة الماركسيين سنوات الجمر والرصاص؛ من اختطافات وسجون، عبر تقنية الفلاش باك؛ ذاكرة مراد التي سافرت في عروج عزلة الزنزانة إلى عالم خاله الشيوعي، والمجهول المصير..
وأنت ممعن في القراءة، ستعرج بك رياح الحي، الممزوجة بعطن دم الموتى وروائح الكيف والحشيش، نحو الحلم اليساري الموءود وخطاباته الرومنسية الوردية، ليقفز بك الكاتب بطريقة سحرية في جغرافيا النص إلى قضايا فساد الشرطة، وتورطها في عمليات القتل، سلب ونهب أموال وبضائع تجار المخدرات، والعنف ضد المرأة، وكيف يستأسد في الهوامش والمناطق المهملة دون حسيب ولا رقيب، بل سيتوغل بك عمق الهامش، في قلب الأحياء الفقيرة، لترى كيف يتقد الشعور بالدونية ويستحيل ناراً ترمد ما حولها، وكيف تستعر مراجل الحقد الطبقي في نفوس (البروليتاريا) حسب توصيف ماركس..
إنها رواية كل البدون المغاربة، الذين ينقسمون إلى نصفين لا ثالث لهما؛ نصف عمل بنصيحة “فرانز كافكا” التي وضعها الكاتب اقتباسا في مقدمة عمله، والتي يقول فيها صاحب رائعة “التحول” أن : “الخروج من البيت مغامرة خطيرة”، ونصف كـ “مراد” الذي خرج من البيت في مغامرة محفوفة بالمخاطر وملغومة بالموت، بحثا عن حلم الخروج من الحي المظلم كله، نحو الأحياء البرجوازية المضيئة، فعاد بخفي حنين، وذاكرة مثقلة بأنين الجراح، وأسئلة الذات والوجود..
“الحي الخطير” عمل لا يشبه إلا نفسه، فهي رواية أناس برزخيين؛ لا هم من أهل المدن ولا هم أهل القرى، بل هم أهل عالم معزول، عالم اسمه حي بنميلود، فهو القائل فيهم في الصفحة الـ 130:
“أهل الحي خارج سياق العالم الكبير وتطوّراته وأحداثه، وما يتغير فيه أو لا يتغير. لا علاقة لهم بالزمن الحقيقي للوجود والتاريخ والجغرافيا والمدن والأمم الأخرى”..