الدّيموقراطية la démocratie مفْهومُ كوْني universel اخْترعتها الثقافة اليونانية العقْلانية، في جوّ من النظام الطبقي والتّفكير الفلسفي، الذي نبذَ الأساطير le mythos، وأعلى منْ شأن العقلle logos ، وقسّم العمل بين الطبقات، حيث اختص العبيد في التّطبيق والعمل اليدوي، بينما انحصر عمل الأرستقراطيين في التأمل والتّفكير وإصدار القوانين.
كما أصبح البرلمان المنتخَب هو الذي يقوم بالتّشريع وليس الآلهة! وقدْ تطوّر مفهوم الدّيموقراطية في العصر الحديث على يد المفكرين المتنوّرين، مثل هوبز وروسو ولوك ومونتسكيو وسبينوزا. وحُدّدتْ الديموقراطية في معاني فصل السلط، وفصل الدين عن الدولة أو السياسة، واعتبار الشخص هو الذي يُشرّع من خلال برنامج انْتخابي يتبارى على أساسه للوصول إلى السلطة التشريعية والتّنْفيذية، مع القابلية التلقائية للتناوب، وقبول سلطة الحزب الناجح بواسطة فرق ولوْ بسيط في الأصوات.
لكنْ أن ندّعي بأن هناك ديموقراطية تتلوّن بلون ثقافة شعب ما، وتُفصّلُ على مقاس حُكّامه، بدعْوى الخصوصية la particularité، الدينية أو العرقية أوْ الثقافية، فهذا هو مُنتهى الابتداع والإسْفاف والسّفسطة.
فإمّا أنْ نقبل الديموقراطية كأساس للحقوق والحرّيات، وإما أن نرفض ذلك. لكن أن ندعي أننا ديموقراطيون بجُرْعات نتحكّم فيها، مثل ما يفعلُ الطّبيب مع المريض، ويحقنه حسب قدرة تحمّل جسمه، وخوْفاً عليه من مضاعفات الدّواء ومفعولاته الجانبية، فهذا يعني ببساطة أنّنا لسنا ديموقراطيين ولا أي شيء، بلْ فقط نتحايلُ لتدبير شؤون البلاد السياسية والاجتماعية.
فلا ديموقراطية مع استمرار حكم البلاد باسم الدّين، وفرض تشريعات ترجع لعصر حمّو رابي، والتمييز بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات والإرْث، وتعدّد الزوجات، وعدم الإيمان بالاختلاف، وحرية التعبير والتفكير والاعتقاد. والتّعامل مع الشخص ليس كجزء من الرّعية، بل كمواطن حرّ وقادر على المشاركة في الحياة السياسية، منْ منْطلق الكفاءة والنّدية، واحترام كرامته، باعتباره له حقوق وعليْه واجبات. وليس باعتباره مسلماً أو كافراً أو ذمّياً.
ولا منْ منطلق الولاء والزبونية والمحْسوبية. فالديموقراطية نظام شمولي وتاريخي لا يقبل التجزيء أوْ التّفصيل على مقاسنا كقطعة من القُماش!
فهل الأحزاب الإسلامية ديموقراطية بالمعنى الذي يفهمُه الغرْب..؟
إن لفْظ الديموقراطية démocratie التي انخرطتْ فيها أحزابٌ إسلامية لا زالتْ تُؤْمن بالخلافة والشورى، والشريعة، وقطع يد السّارق، والتمييز بين المرأة والرجل على مستوى الإرث والزواج، وتعدد الزوجات، والرجوع للسّلف الصّالح. كلّ هذا يجعل منها كلمة حق يُرادُ بها باطل!
فالانقلاب التركي في الصيف الماضي بيّن أن أرْدوغان لم يكن في يوم من الأيام ديموقراطياً، وإنما يحلُم بالخلافة وحريم السلطان. ومحمد مُرسي كان يُمهّد الطريق للاستيلاء على الحكم، واعتباره قميصاً ألْبسه الله إياه، كما فعل عثمان، وهو نفسه ما كان يخطط له ابن كيران وحزبه الديموقراطي جدّاً، حين ظهر معارضاً لكل مصالح المغاربة، موظفين وشعب، بتخلّيه عن دعم المواد الاستهلاكية، والانتصار للبنك الدولي وتوجيهاته الصارمة، وفرض إصلاح التقاعد على الموظفين دون الالتفات لدوْر الدولة في تخريب الصندوق، وتقاسم غنائمه بين الموظفين الكبار، وتعويض عسكريين كبار من رصيده بدون وجه حق، وعدم دفع الدولة للثلثيْن الواجبة، منذ الاستقلال.
إن رفض أوروبا لأردوغان باعتباره ينتمي لتاريخ ما قبل الديموقراطية la préhistoire de la démocratie، وقبولها لانقلاب السيسي على الإخوان، والتّمهيد للإطاحة برأس أفْعى العدالة والتّنمية المغربية، هي كلها عُقد تنتظم في نفس الخيط الرابط والرافض لمن كان في الأمس القريب يُعْتبَر ظلامياً وإرهابياً، ليصبح بين عشية وضحاها ديموقراطياً démocrate يقبل بالتناوب على السلطة، وينسى مبدأ الأمر بالمعروف وقطع الأطراف منْ خلاف! وذلك بواسطة عصى سحرية تؤمن بها ثقافة أوروبا الساحرة، والمطاردة للساحراتla baguette magique، إن لم تكنْ مكنسة ساحرة الغابة.
فهلْ العرب حقا ديموقراطيون بهذا، أيْ يمتلكونَ حسّ العدالة وثقافة الإنـصاف، واحترام الآخر..؟؟
عندما نتحدّث عن الديموقراطية la démocratie، نتّجهُ مباشرةً لمجال السياسة، حيث حُكْم الشعب لنفسه بنفسه، وفصل السّلَط la séparation des pouvoirs، أي السّلطة التشريعية le pouvoir législatif، والتنفيذية le pouvoir éxécutif القضائية le pouvoir judiciaire، بينما مفهوم الديموقراطية هو أعمق وأشمل منْ ذلك بكثير.
إذ يتعلّق بامتلاك حس العدالة، وثقافة الإنصاف، التي يتشبّع بها الشخص من خلال تربيته في البيت والمدرسة والشارع. إذ يظهر ذلك في سلوكه تجاه الغير، بحيث يحترم الأولويات في السير، واحترام إشارات المرور، وإعطاء الأسبقية للراجلين والمرضى والشيوخ والنساء الحوامل والأطفال. وكذلك في أمكنة العمل وقضاء الأغراض، وعدم التسابق، وانتهاز الفُرص واستغلال النفوذ، وغيرها من السلوكيات المَرَضية التي تتميز بها شعوبنا ، كالغشّ في الامتحانات والرشوة ، والمجاملات والعلاقات الزبونية والمحسوبية، التي تجد الغربيين والآسيويين يتلافوْنها، لأسباب أخلاقية.
فالغشّ في الامتحانات والمباريات، يعني الحصول على شهادة غير مستحَقّة، أو منـصب بطريقة غير مشروعة وغير أخلاقية، تؤدّي إلى سَرقة مجهودات الآخرين، وإشاعة الانتهازية، والإخلال بالواجب، وعدم احترام الغير، ممّا يعني الأنانية، التي يعتبرها هيجل Hegel من بقايا العالَم الطبيعي الحيواني، الذي يقوم على الغريزة والقوة والغَلبة. وليس المجتمع المدني القائم على الحرّية المقيّدة بالحقوق والواجبات، والإيثار، والتعامل مع الإنسان كإنسان فقط، بغضّ النّظر عن جنسه أو لونه أو دينه أو اعتقاده، أو انتمائه الاجتماعي.
وهذه مسائل تُكتسب من خلال التربية والتنشئة الاجتماعية، والتعليم الذي ينبغي أن ينشر قيماً تقوم على النّزاهة والموضوعية واحترام الاختلاف، ونبذ التعصب لدين معين، أو عِرق، أو طبقة بعينها، مما يُشيع الكراهية والحقد وروح الانتقام، وليس روح المنافسة الشريفة والنّدّية la compétitivité، والكفاءةla compétence، والتّسامح la tolérance.
والولاء فقط للدولة عبر الأحزاب، وليس للعشيرة والقبيلة والطائفة الدينية .هذا رغم كون اليونانيين مُبدعي الديموقراطية، لم يكونوا ديمقراطيين بهذا المعنى الشمولي، وإنّما اعتبروا العُبودية esclavage، شيئاً طبيعياً، واعتبروا العبيد مخلوقين من معدن أدنى، مما يجعلهم لا يستحقون الإنصاف والعدالة، بلْ عليهم التزام حدودهم في العيش والعمل والطموح.
فوظيفتهم الأساسية خدمةُ الأسياد الأرستقراطيين، والقيام بالأعمال الشاقّة، وإنتاج الأطفال، لتميّزهمْ بامتلاك الغريزة أو النفس الشهوانية، وليس النفس العاقلة حسب تصور أفلاطون. كما لم يكنْ بإمكانهم المشاركة في الانتخابات ولا في مناقشات الساحة الأثينية الشهيرة Agora، رغم محاولات سقراط إشراك العبيد في المعرفة، للاستدلال على مساواتهمْ للأحرار من ناحية العقل بالفطْرة، كما جاء في محاورة مينون Ménon الأفلاطونية، والتي كلّفته غالياً بالحكم عليه بالإعدام لاتهامه بإفساد الشباب والاستهزاء بالآلهة، وبالنظام السياسي الأثيني الصارم، الذي لا يقبل الفوضى الطّبَقية، معرفياً ومنطقياً واجتماعياً وسياسياً!!