حراق الغياب.. الذكريات العتيقة

حراق الغياب.. الذكريات العتيقة

“مصابيحي اليدوية لن تنال من عتمة هذا الليل الطويل..! وحتى لو حولت أصابعي إلى فراشات، سيبتلع الظلام الفظيع أقباس الأمل، وسيخفي وعد أقواس قزح بالمطر، وسيبلل بالعطب رهافة الأجنحة وتلال الطريق..؛ هذا الليل الذي أعرف لا ينتهي”.. أبو هديل، بشر حيدار..

وأنتَ هناك، هل تسمع؟.. الساعة الآن تشير إلى ما بعد منتصف الليل، وأنا لازلت ساجدة في هيكل عشقك أرفع صلواتي المهدجة بألف شوق وشوق..

إن وصل صوتي تجاويف أذنك، فاتركني أسحب جلدك الناعم، لأكتب بوحي عليه، لا لأعاتبك على شيء، بل لأنعيني فيك.. وأنا التي تعلمت منك أن حكمة العشاق جنون لا منطق له.. بل لأخرج عصى صمت الشوق الغليظة من حلقي..

فقد ظللت أكبت تلك الرغبة وأقمعها كما ظلت هي تدفعني إليها دفعا.. طلبت مني ألا أكتب، ولكن لم أستطع إلا أن أفعلها، رغم أني أعلم أن الأبجدية الآن فقدت شططها.. وربما قد تكون هذه الحروف حشرجة ما قبل موتها بين أصابعي..

ها أنا أغالبك، وها أنا أكتب لك خبط عشواء، لا لأهزم طغيان الصفحة البيضاء ورهبتها بحبر لا أرى له لونا، بل هي رغبة متوهجة لأحسك جنبي.. وذلك غير ممكن لأن الأحلام كالماء؛ لا تكمش بقبضة اليد.. أكتب لك لأني أفتقدك بشدة وأنت الذي أخذت كلي بلا خوف، وبعضي بلا ثقل..

ولأنك أنتَ أنت.. سأنتظرك..

سأنتظرك لأن الأحلام تنتظر فقط يا عمري الهارب..

سأنتظرك لأن يقينا يشبه يقين الأنبياء في داخلي يقول أنك لست “غودو“، وأنك آتٍ لا ريب، وأني سأراك بدهشة تشبه فتنتك وهبلك، تشبه شهواتك وطيشك، تشبهك أنت وحدك..

الآن أيها الغائب الحاضر، فهمت بعد فوات الأوان، معنى “أكرهك”، وعرفت منها كم هو معقد هذا الإنسان، وكم هي متشابكة خيوطه ومتشعبة، حتى في الحب معقد حد التلف.. لأن الوجد ظل للوجود، وليس شيئا ملموسا بقدر ما هو عائش في دائرة الطبيعة، يتنفس فيها ويأكل منا ومنها، يعتنق قيمها أكثر منا، حتى البهيمية منها..

ويعتنق دين “القوي يأكل الضعيف”، ويتمثلها في ذلك الذي أحب الآخر بعمق حد التملك، يأكله بأنياب عشقية المضغ.. لأنه يستطيع أن يشذ عن الطبيعة حتى في أكثر حميمياته هشاشة، لذلك نجد الحب دائما مرفوق بالكراهية؛ كراهية حب، تفرض نفسها اتجاه الآخر، ولكن ليس هو، بل تكره عبوديتك الطواعية له، وتملكه الاختياري لك..

إن وصل صوتي تجاويف أذنك، فاتركني أسحب جلدك الناعم، لأكتب بوحي عليه، لا لأعاتبك على شيء، بل لأنعيني فيك.. وأنا التي تعلمت منك أن حكمة العشاق جنون لا منطق له.. بل لأخرج عصى صمت الشوق الغليظة من حلقي..

فمن يا ترى أكل الآخر فينا، أم أننا كنا مقاتلي نينجا، وطعنا أنفسنا الطعنة السريعة والأخيرة..

لا أدري، ولكني أعلم أيها الشقي أني غسلت يدي مني، وسلمت روحي للمجهول، وسأعود كأنني جندي مهزوم يجر أذيال الخيبة إلى عالم الرذيلة، حيث تمارس الأمية بحميمية متناهية، وتتبادل قبل الجهل بشبقية صارخة..

لا أستطيع أن أنصت إلى صراخي مسلوب الأصداء، محاولا أن أغلق علي نوافذ السمع فأنا أوهن من تحمل كل هذه الحرائق، ولا قوة لي كي أشتم روائح الروح تحترق في هيكلها..

الذكريات العتيقة تسرقني..

كل شيء يسرقني مني نحو الذكريات العتيقة، يسافر بي على جناح رغبة العاشق إلى أقصى الجنون، يضعني هناك، حيث أطل وحدي على شرفات شط الذكريات ..

فأراك بيقين الأنبياء أو وهم العاشقين جنبي في الهنا كما أنت مضغم فيَّ في الهناك وبينهما أمشي على وقع خطاك نحو تيه الغياب المستحيل، دليلي نبض نأيك القميء وعلامات تشوير الطريق ترفع عقيرتها بالأسئلة القلقة الهاربة من عقال المعقول واللامعقول، تناغي الجواب الملموس واللاملموس..

سأنتظرك لأن الأحلام تنتظر فقط يا عمري الهارب..

سأنتظرك لأن يقينا يشبه يقين الأنبياء في داخلي يقول أنك لست “غودو”، وأنك آتٍ لا ريب، وأني سأراك بدهشة تشبه فتنتك وهبلك، تشبه شهواتك وطيشك، تشبهك أنت وحدك..

ولأنك أنتَ أنت.. سأنتظرك..

أعلم أني كنت أخنقك يوما بعد يوم، وأدق برعونة آخر مسمار في نعش هبلنا معا، لكن لِمَ دفنتني في برد العراء، ولماذا أنجبتني في هذا الفراغ خارج رحم قلبك، وفطمتني عن أنفاسك، ولما أسقطتني من مخمليات سرير أحلامك، لأحبو خارج جنتك، وكيف استحلت من إله رحيم إلى سادي مجنون، يزين زندي بناره؟!..

أريدك أن تعلم أني لازلت على دينك فالعقيدة شيء يصعب إسقاطه ولو تنكر المرء لها بالكبرياء الخواء.. وأني في تلك اللحظة المهبولة، لم أحترق لأكون فراشة الضوء، أو لأتقمص دور ذبيحة نحرت عنقها لتقتل السكين، بل لأرى باليقين القادر لا بالتكهن العاجز، ألا ألم يفوق آلام النأي، أن حرائق الأجساد لم تعد تألم من خدرت روحه إبر التيه الأعظم والجنون المقدس..

ربما لا هذا ولا ذلك يا أناي الهاربة، بل إن نبيا فقد رسالة آلهته في لحظة مجنونة، قادر أن يشغل هذه الدنيا حرائقا ترمد كل شيء لتذروه الرياح..