هذه الحكاية ليست خيالا ابتدعته مخيلتي، بقدر ما هي قصة فتاة أخرى؛ من زمن آخر غير زمننا، كان يجب أن تولد في مكان آخر غير هذا المكان.. أنا فقط أنقل لكم ما خرج من فاهها من قول، وقد يكون صدقا أو كذبا، وقد يكون أعوز بمكان إلى المنطق والوضوح، لكن العهدة علي في أن أوصل حكايتها التي تتشابه مع كل الحكايا..
كان الوقت مساءا، حين التقينا على قارعة شارع “البهرجات”، وكانت صديقتي “صدفة”، التي ألتقيتها صدفة، خارج فضاء اللازورد الافتراضي، في أبهى أنوثتها وتوهجها، حين ناديت عليها ببراءة صبيانية، واستدارت نحوي منبهرة الأسارير، فاتحة اللون أسيلة وطفولية..
عندما تعانقنا شممت فيها شيئا أقوى من روائح العطور الراقية، شيئا يشبه دخان الحرائق، أو تفحم الجثث، كأن صاحبته تحممت بواد من العطر الثمين، لتخفيه، لكنه أبى أن يندثر..
وعندما سألتها، لفظت هذه الكلمات، بحرقة بكائية كأنها ميت يتلوا وصيته نكاية في حشرجة المنايا..
ومنذ العبارات الأولى لكلامها الحارق، سحرني أسلوبها الرائع في الحكي، ومفرداتها الموغلة في تصوير بؤس الحال، وسوداوية الحياة، في مدينة سلمت رقبتها للمجهول..
أنا ابنة المدينة الزانية، المدينة التي فتحت فخذيها، وعرت ما تحت تبانها الوبري لحراس النوايا، قبل أن ترمي أطفالها في الشوارع، وعلى أرصفة الجوع والمنافي، متنكرة لهم، وهي تصرخ في وجوههم: “لقطاء”.. أنا التي بنيت من خرابها مزارا، للعابرين بتاريخ فرجها، ورسمت من مجاز أحلامها قوس قزح الأمل العقيم، فأناملي لم تتعود إلا أن تكون آلة كاتبة، حين تعصر الخيبات بعنف عروقي، فأنزفُ ألمي نصا تلو الآخر، نصوص متخمة بحنطة الوجع المكابر..
نصوص استحالت أبجدياتها تحت بناني عيدان كِبريت، حرقت فحم الأحلام، فكان النور أبعد من أن تطاله يداي، وأوسع من أن تحدّه عيناي، فنور الخيبة الذي يثير مواضع اللّذة بالدماغ، لتتضاعف انتصابات الخذلان دون إفراغ في وجه التحقيق؛ لا يسيج ولا يكبل..
تعلمت أن ألوكَ النصوص رغم مرارتها، أن أفتح الجروح على مصراعيها، وأدخل في عرائها كالحمقاء، أتجول حافية القدمية بين الأحرف ثم أغلقُ الأسطر بحذر، كي لا يؤجل فعل الغلق، صوت الأزيز..
كان النص في مدينتي الغبية البغية، تابوتا تحمله النساء قسرا إلى مقصلة الموت، يضفرن جدائلهن تحته مشانقا، على ضوء الآمال المكسورة، وهن يحلمن مجازا بمدينة لا تنهشها ذئاب الصحراء، مدينة هادرة كشلال، ممعنة في الدهشة كما في الحيرة والصمت، مدينة ترتفع فيها أصوات الأغاني، لا ترانيم الجنازات، مدينة بسكان بتروا ذراعهم كي لا يشيروا إلى العدم، وقطعوا أيديهم تصبرا، كي لا يتمسكوا بهذا الخيط القميء الذي يرتق الإنسان على سطح صفيحٍ مائل، قد ينهار فجأة قزديره سيء التصنيع..
أنا ابنة رصاص حقدٍ، يمارس غوايته الأخيرة، في ترويع أسراب الحب لعلعة خيال رعوي، يخترق خاصرة جلد مدن الرماد، فتسيل جنونا كعرق الذاكرة.. أنا ابنة الوقوف على الطلل توسدا على عكاز مكسور.. ابنة الأعمى الذي يوقد النور بإصبعه مجذوع، وبكف مهجورة كمدينة سحقها الطاعون..
ها أنا ذي أمارس عبث العيش، وأفتعل المجاز على شاطئ البحر، كأن أرمي بظلي على الماء، وأطلب منه أن يصيرَ نهرا أو زبداً على فمِ البحر.. لا بل أرغب بالتلاشي كغيمة تذروا الريح بياضها، في أن أصير وطنا للعابرين الذين آمنوا أن الوطن للغزاة واغتربوا..
فحين قررت أن تكون مدينتي سماءا، لم تأخذ بالحسبان أن جناح طيورها مثقل بجوع الطفولة، وحين قررت أن تغسل وجه هذا الليل، لم تبصر في الظلماء سوى وجهي، الذي كان هاجسي، وخيالي في عري الكتابة، وهكذا تتسنّى لي كتابة نص طويل جدا، أطول من هذا الليل، وأشد طولا من عنق الملل، بل أطول بكثير من نخيل خيالك..
ولم يكن نصّي؛ فأنا في الأصل لست لي، أنا ابنة الخذلان، ابنة الوقوف فوق زجاج الاستفهام المكسور، لا بل ابنة لحظة عبثية، ابنة الشك في التلعثم الدائم، كلا أنا ابنة الخسارات الكبرى.. ولست وحدي في هذه الخسارة، فالكل يا سادة معرض لها، إذ تتعرضه هي، ولا فرق بين أن تخسر كومة دقائقك مبكرًا، أو قبل الصافرة الأخيرة بقليل.. فأنت حتما خاسر، خاسر، خاسر!..
قرأت نصك بانتباه، وشعرت بكل كلمة فيه وبه، ولكنني في آخر النص اختلفت مع آخر كلماته، لأنني من بلد لا يحب الخسارات أبدا..