لا يجب أن ننسى أن تصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية ليس الموقف العربي “الرسمي” الأول من نوعه ولكن الاستتبعات الآن شديدة الاختلاف.. في البيان الختامي للدورة الـ33 لاجتماع وزراء الخارجية العرب المنعقد في مارس 2016 كان البيان الختامي في فصله السادس والسابع يشير إلى وجود تنظيمات إرهابية تسعى “إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة”.
حينها لم يكن لهذا التصنيف أي أثر حقيقي نظرا لأنه لم يكن ممكنا وقتها تصريفه إلى إجراءات حقيقية ضد حزب الله، الأمر الذي جعل حزب الله نفسه يستقبل هذا القرار بهدوء مشوب بكثير من السخرية لقرار لم يتجاوز نبرة التهديد المعتادة.. أما الآن مع المتغيرات العميقة التي تحدث في المشرق، وتجاوز التنافس الهيمني السعودي الإيراني الخطوط السياسية ليفتح الباب أمام المجهول الذي قد يصل إلى حدود الحرب، فالسعودية على ما يبدو أخذت تتحرك دافعة الجميع إلى حرب لا يمكن أبدا توقع فصولها المدمرة واستتباعاتها التي وإن كان من الصعوبة توقعها إلا أنها ستغير مشهد المشرق إلى الأبد.
المتغيرات “التحديثية” التي تحدث في السعودية تعتبر الأكثر جذرية منذ أن قرر الجد المؤسس للدولة السعودية إنها حرب “الدعوة ” وتصفية اليد العنيفة “إخوان من طاع الله” ليخلق دولة قائمة على التحالفات القبلية مجاليا والنفط في مستوى الثروة.
هذا الترابط الاجتماعي والاقتصادي الذي قاد السعودية زهاء القرن (بدون إطناب في الأسباب البنيوية التي سنعود إليها لاحقا) لم يعد قادرا على تسيير الدولة بهذه المحافظية داخل عالم شديد التغير.. إضافة إلى التحولات الكبرى عالميا والسجال الدموي على طاولة مصنوعة من جماجم السوريين بين القوى الكبرى، أصبح لزاما على السعودية أن تتجاوز الفشل الكبير في إدارة صراعها ضد هيمنة إيرانية تغلق عليها كل المنافذ من اليمن جنوبا إلى سوريا شمالا. بالتالي خيار المواجهة أصبح حتميا وإلا سيطبق عليها داخل كماشة قاتلة.
الاقتصادات الريعية التي تتحدد الملكية وبالتالي توزيع العمل من الأعلى، أي من نظام الحكم المسيطر ذاته تملك “مرونة” كبيرة في تغير المشهد السياسي وبالتالي مجمل التوازنات الاجتماعية السائدة. لأن حركة الصراع فيها ليست بالتعقيد البنيوي الذي عاشه صراع اللورد والفلاح الإنجليزي أو التاجر والإقطاعي الفرنسي. ربما، أن السلوك الاجتماعي هنا أكثر أهمية من البنية الاجتماعية وهذا ما يجعل حركات التغيير في دول الخليج حتى لو نحت “للجذرية” لا تخلق قلالق كبيرة وبالتالي اهتزازات مجتمعية عنيفة.
ملاحظة ما يحدث في السعودية، هذه “الجرأة” المثيرة للإعجاب للأمير الشاب في تصفية فرع كامل من عائلة متجذرة في جهاز الدولة الذي ينجح في عملية بيوريتانية (تطهيرية) داخل العائلة الحاكمة لا تنبأ بتغير ذا بال داخل النظام السعودي في مستوى بنيته ومهامه الاجتماعية وهويته الطبقية الأساس.
إذا أن بن سلمان يستطيع إطلاق النار على أي كان داخل المؤسسة الحاكمة ولكنه لن يستطيع حتى لو أجهد نفسه في أن يتحول إلى حالة “مستبد مستنير” لا على الشاكلة التركية -هذا أبعد من زحل- بل وعلى أي شاكلة تحديث سلطوي شهدها العالم الثالث أجمع.. فإذا كان سلمان يستطيع التعاطي بعنف داخل نظام الحكم الذي سينظر له حتما اجتماعيا على أنه صراع “عائلي” فإنه لن يستطيع نقل هذا الهوس التصفوي -حتى لو افترضنا وعيه بضرورة تغيير “ليبرالي” يُصدر نحو الغرب لأنه سيفتح معركة أكثر عنفا أمام مجتمع شديد التأخر والمحافظية الثقافية وبالتالي الاجتماعية.
ما سينجح فيه الملك القادم هو تركيز نظام مغاير في مستوى الشكل فقط على سابقه، بمعنى أنه سيخلق نظاما شديد المركزة في مستوى بنية النظام بأشكال جديدة للسيطرة قد يكون أحدها إنهاء سيطرة المؤسسة الإيديولوجية التي تعبر عن حاضن دافع للتجانس المجتمعي وتحيل على تحالف اجتماعي جذوره تمتد إلى الجد المؤسس.
السعودية تتحرك داخل مسارين في إطار تسخين أجواء الحرب ضد المحور الإيراني:
المسار الأول
مخاطبة الشعور القومي العربي ضد أعداء “للأمة العربية” وهذا غير قادرة على توظيفه سياسيا خارج إطار الدعاية لسببين، أولها تفسخ الحالة القومية التي تؤسس أيديولوجيا على مقولة العداء للتمدد “الفارسي” بعد نهاية الدولة الكاريزيمة في العراق وتغير الديمغرافيا السياسية العراقية وبالتالي القوميعربية لصالح شكل شديد الرجعية من الحكم الطائفي، والثاني كون الصورة “الرسمية” المتبقية للمشروع القومي العربي ونعني النظام السوري وحكم بعثه ذا الشعارات العروبية انتهى لصالح الشق المقابل وجذب معه كل الحركات السياسية ذات النزوع العروبي في كل العالم العربي، بالتالي لا تستطيع السعودية منازعة أصحاب الخطاب لخطابهم وهذه المنازلة الأيديولوجية خاسرة منذ البدء.
المسار الثاني
ترفيع هيستيريا التناقض الطائفي على قاعدة صراع ديني سني/شيعي. هذا التمشي ربما نجح في مناخ عالمي متناغم مع تمشي دول الخليج الذي كان متجانسا وقتها لإسقاط الأسد وبالتالي توظيف المنسوب الديني المرفع للثورة السورية الذي أنتج كاستتباع أيديولوجي وسياسي طبيعي الحركات الدينية المتطرفة أي داعش وجبهة النصرة وكل تفرعات الإسلام السني الحربي في سوريا. الأن من الصعب جدا خلق هذا الجدال الطائفي من جديد جديد (polimique) لأن العالم “المتحضر” الذي خاض حربا ضروسا من أجل إنهاء داعش العراقية والسورية والذي يتجه إلى مساومات أكثر هدوء وأقل تشنجا بعد فرض الروس الأمر الواقع لن يقبل من جديد بالتسامح مع الإسلام الجهادي الجديد عديم الفاعلية داخل قوانين جديدة للعبة في المشرق العربي.
وعلى أي حال لن ينجح السعوديون إنتاج أدلوجة أكثر اتساقا من أدلوجة “الممانعة” التي تسندها سردية تشكلت بجهد وصبر منذ احتلال سوق الكسب النضالي الأخير للقضية التحررية العربية في جنوب لبنان، بل أنها تعاني دعاية مضادة جبارة مرتبطة بعلاقتها بالكيان الصهيوني التي تلغي أي إمكانية تعاطف تقدمي عربي مباشر مع خياراتها في مواجهة رصيد كبير من الثقة التي يحوزها حزب الله بتاريخه الطويل الظافر مع الكيان الصهيوني.
غياب صدام حسين عن صراع الهيمنات العربية/العربية الذي شهد هزيمته الأخيرة في لبنان ضد إيران وحافظ الأسد، السعوديون حينها كانوا مستكينين لأدوارهم الهادئة في تسويق الأجندة الأميركية بأمانة التلميذ النجيب لتستيقظ فزعة الآن بعد حربها على الجميع وحيدة ومضطرة لهرسلة الحكومات العربية الضعيفة خلفها من أجل حرب، ضمانات النجاح فيها شديدة الضبابية.
ما يريده سلمان أبعد من أن ينال.. “اللورد” الشاب الذي وقف ضد الملكية التقليدية والذي يحاول دفع تغيير داخلي مستعجل جدا ربما قد يدفع العربية السعودية إلى تحولات اجتماعية أساسها الشريحة الوسطى الكبيرة المكبوحة دائما ببنية سلطوية تقليدية تقمع الطموح، والتي بدا عبر الحماسة الكبيرة منها أنها تأمل في تحولات حقيقية تخرج السعودية من حكم الشيوخ إلى نور العالم الأرحب.
ولكن هذا الاستعجال المرتبط بصراع مع ملالي إيران الأقوياء والذي اختيرت له لبنان المنهكة كحلبة منازلة مع تحالف عميق الجذور في الأرض مع طموحات عربية “رسمية” منهكة وتابعة وفاقدة لكل إمكانات النجاح..
لنشاهد ما يحدث..