ضِفافُ العاطفة على بحار العقول – عندما سألت العرَّافة جبران خليل جبران

العقل والعاطفة .. ضِفافُ العاطفة على بحار العقول – عندما سألت العرَّافة جبران خليل جبران


يرى سقراط بأنَّ العقل يجب أن يسود على كافة الأحاسيس الأخرى، وعليه يجب أن يكون صاحب الحلِّ والربط والكلمة الأخيرة في كافة المسائل اليومية للمواطن اليوناني، تاركا العواطف وسلطانها للعبيد والوافدين على أثينا.

كما أنَّه جرَّد فئة الحرَّاس من العواطف نهائيا، معتبرا إياها عائقا أمام الإبصار بوضوح، وهذا ما يجعل المدينة مهددة وفي مرمى الأخطار.

وراح أفلاطون على المنوال عينه، متبنيا سلطة العقل على كافة تقلبات الجسد مقصيا الناقطين باسم العاطفة وهُم الشعراء مِن أروقة أكاديميته.

كما استمرَّ أرسطو على النهج العقلي ذاته، رغم اعتراضه على الكثير من آراء سقراط وأفلاطون معًا، مؤيدا في الكثير من الأفكار الاتجاه الغنوصي الذي تزعَّمه فيثاغورس يومها، هذا الفيلسوف الذي أعطى الكلمة الأولى والأخيرة لتلك الأشجان التي تولد داخل الإنسان نتيجة لصدى صوت الكون الكبير – حسب تعبير الشيخ الأكبر – وآثاره على الداخل الإنساني.

لقد ورد في كتاب النبي لأمير نيويورك سؤال العرَّافة حين قالت: “هات حدِّثنا عن العقل والعاطفة ” (جبران خليل جبران، النبي، دار تلانتقيت، ص: 54).

وهي إشارة بل بالأحرى محاولة من هذا القدِّيس الأدبي من أجل رفع اللبس عن هذا الجدل التاريخي بين العقل والعاطفة ، بين أبولون وديونيزوس، بين المنطق واللامنطق، بين الوجود المنظَّم، والوجود العَفَوي، بين إنسانية الإنسان وموازينه.

لقد أثبتت الأحداث التاريخية بأنَّ النجاة في هذه الحياة وما بعدها هي من مصدر عقلي خالص، وأنا أعتبر العقل مِثل الدواء المرّ على المريض تحمُّل مرارته مِن أجل شفائه ممَّا ألمَّ به.

ما بين العقل والعاطفة

ولكن بالمقابِل فإنَّ العاطفة هي تلك القطَّة الناعمة التي تتربص بالفرد الإنساني، قد تجعله ينزف بغزارة عندما يداعبها بدلع مبالغ فيه، ومع هذا فهي حاضرة ولا يمكن إقصاؤها بأيِّ حال مِن الأحوال.

لا يُمكن للإنسان أن يصبح آلة بلا تفاعل مع ما بداخله وما هو حوله، ولا يُمكن للفرد ذاته أن يتخلَّى عن عقله تماما، خاصَّة إن كان مِن فئة النبلاء، لأنَّ غياب العقل معناه استبداله بالعشوائية التي ستقوده نحو المشاكل حتما.

الإنسان العاقل – في اعتقادي – هو ذاك النبيل الذي يُروِّضُ عواطفه بسياطِ عقله، فما أجمل مداعبة قطَّتِك بعيدا عن حافة الهاوية، بعيدا عن الصورة النمطية التي يتخذها محيطك تعريفا لك، وهذا بالذات ما يجعل الفرد الإنسان يعمل على تحصين ما يعيشه بواسطة الأخذ في الحسبان ما يستطيع تصوُّرَه مِن الاحتمالات، تلك التي تلعب أدوار العراقيل خلال اليومي الإنساني.

يقول جبران خليل جبران في نبيِّه: “لأنَّ العقل إذا استقلّ بالسلطان على الجسد قيّد عواطفه، كما أنّ العاطفة إذا لم يرافقها العقل كانت لهيبا يتأجَّج ليُفنيَها” (جبران خليل جبران، النبي، مصدر سابق).

وهذه دعوة واضحة لوجوب مرافقة العاطفة للعقل وبقاء العقل جنبا إلى جنب مع العاطفة، فكلُّ واحد منهما عليه أن يكون ظهيرا للثاني، لأنَّ صرامة العقل قاتلة، تجعل الفرد الإنساني بلا عاطفة أكثر قابلية للتصلُّب والتشقُّق، الذي يُفضي إلى الانشقاق كمقدِّمة للشَّقاء.

التوازن بين العقل والعاطفة

بينما عَبَثُ العواطف دون تعقُّلٍ، يقود الإنسان عند الاستحواذ عليه نحو الضياع بشكل صارخ، ليتيه في ضياعه هذا على نحوٍ كامِل، وهي حالة تجعل الفرد الإنساني ينفجر مِن العمق، كمقدِّمة للغَرَق والتلاشي كلِّيا، فإمَّا يصبح عَبْدًا طوعًا لغيره، أو يفقد كافة قواه، فيبقى عاجزا عن أداء مهامه وقضاء ما يحتاجه، ليلجأ كالمُستغيث إلى غيره أيضا.

التوازن بين عقل العواطف وعاطفة العقول أمر لابد منه، أدري بأنَّها مهمَّة لا تصبُّ سوى في مقدرة النبلاء من بني البشر، لكن على الباحث عن السعادة الذاتية أن يحاول صناعة هذا المبدأ (التوازن)، ليكون كالمشكاة التي ترشده نحو طريقه الخاص فعلا وواقِعا.

ولنا في بلاد الإغريق أهمَّ العِبر، فقد كانت أثينا مدينة العواطف، بينما طبَّقت اسبارطة الصورة المنطقية تماما، فَأطلقت يد العقل بصرامة، لتنتج في نهاية المطاف، حضارة مدهشة مكتملة الأركان إلى حدٍّ مذهل، وما ينطبق على الكون الصغير، سينطبق أيضا على الكون الكبير يا سادة.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي يوث.

Exit mobile version