من ذاك العمق الذي يوزع الألم بالمجان على الشرفاء الأتقياء، والذين قرروا السير على طريق مبادئهم الجليلة، من تلك المنطقة العميقة، يحاول الفرد الإنساني تفحص حياته رغبة منه في فهمها، لعله بهذا الفهم، يسقط في فلك الهدوء، هذا المطلب الذي لطالما كان ولا يزال من أولويات الفرد الإنساني ضمن دائرة هذا الوجود الفسيح.
يقول آل بتشينو: “الشجعان يموتون، العباقرة يصابون بالجنون، وتبقى الحياة مليئة بالمغفلين السعداء”.
ومنذ أن قرأتُ هذا التصريح من رجل تحمّل الصعوبات لتسلق سلّم الأساطير العصرية، وأنــا رافض للسعادة؛ لأنها وببساطة قد صارت مرتبطة بأمور ندفع لقاءها ثمنا غاليا من أرواحنــا، وكم هو غالي للغاية وعزيز على نفسي أن أسدد ثمن أيّ شيء من روحي، حتى ولو كانت سعادتي في ذلك.
تختفي مباهج الحياة من الوجود، تتداعى كقلعة رمل في مواجهة الأمواج على شاطئ مهجور، تسدد ضرباتها إلى ضمير مهزوز، تعيد الكرة كلما شعرت بمحاولات هذا الضمير من أجل العودة إلى حياته، تنكر الجميل، تزيد من طغيانها واستبدادها على ما تبقّى لها من أمل، ثم تجالس عنفوانها طلبا للرحمة والشفقة، عندها تختلط المفاهيم، وتسترسل الحياة في إهانة الإنسان، تتجمع كل هذه الأمور في بوتقة ذات واحدة، لتصنع منها جرحا خطيرا للغاية، لا يمكن أن يعالج بالطرق والأساليب التقليدية، لهذا من المهمّ أن تسابق الأزمان من أجل إقامة ذاك الصرح الغريب البعيد، ذاك المكان الذي لا يمكن لأحدنا بلوغه بما يتوافق مع متطلباته، فتتصاعد كل مفاتن الهموم تارة ودفعة واحدة، لأنّ الإنسان له عتباته الخاصة، له مراميه الخصوصية، وله وسائله المتخصصة في إقامة صرحه الخاص للغاية.
عليك أن تعود إلى ذاك المجرى العريق يوما ما، مهما هربتَ منه ستعود إليه، وستحاول إصلاح كل ما أفسدته تلك القوة التدميرية بداخلك، لكنكَ فيما بعد، ستكتشف بأنّكَ وحيد، غريب، وكأنكَ لم تصاحب ولم تحب أحدا، فكل إنسان كان مقربا منك، قد أضعفته ودمرته، لتشعر بغربة ووحدة الدمار والخراب، عندها ستصرخ بيأس فتكون تلك أولى خطواتك باتجاه التوحش.
المشتغل على الروح بمعوله الخاص هو الإنسان الذي يملك نفاذا رائعا، هو الفرد الذي يجعل الأمور تهون أمام روحه الدافق، فعندما تقيم بداخلك، فإنك تحمل على عاتقك قرارك الخاص، وبدل الدمار ستبني للجميع مساحة واسعة للغاية، إنّك بذلك تدمج الجميع في روحك، ولا تخف من قدرة الروح على استيعاب الكل، لأنه لا يعترف بالحدود والمسافات.
لكلّ إنسان فترة هيجان، مسموح له وهو في تلك الحالة الهستيرية أن يعبّر عن كل خلجاته المتعددة، له كامل الحق في الدفاع عن ما يعتقد بأنه السليم من الأمور، لكن عليه أن يعرف بأن من معه لهم الحق في تحمّل جزء مما يعانيه بحكم حبهم له، لكن ليس من حقه أن يهينهم ويفتك بكرامتهم أبدا.
عندما يقع الإنسان في حفرته الروحية السحيقة، سيتكفل بسحق كل ما بناه دون دراية منه، والقليل من بني الإنسان من يخرج بعد هذه السقطة سالما بأخف الأضرار، فهي من المفاتن الكبرى التي تضرب الذات البشرية في مقتلها، لكن سيبقى أمام الفرد أن يسير على الحافة أكثر من مرة، وفي حالات كهذه، عليه أن يقدّر ما معنى أن يساعده أحد، أن يحمله ويتحمّله أحد ما، لأنّه بهذه الحالة، سيكون في أمسّ الحاجة إلى إدراك ذاته عبر الآخرين.
في وقفات كثيرة مع نفسي أحاول أن أفهم لما وضعنا في جماعة كبشر؟ لكنني أعجز عن الإجابة، أتذكر مقولة جون بول سارتر الشهيرة: “الآخر هو الجحيم”، ومع ذلك أكبتُ ذاتي عن الصراخ، لأنني أتذكر أناسًا بالمقابل أعطوني حبًّا، ومنحتهم أنا كذلك روحي دون مصلحة… بزاف.