لم تكن اللغة العربية يوماً في حاجة إلى من يَزود عنها؛ فهي اللغة الأمثل والأمتن بلا مُنازع، وحتى وإن احتمت اللغة مراراً وتكراراً بدروع وأقلام أبنائها وعُشاقها من جميع المدارس والوِجهات، فليس قلمي يبلغ هذه المكانة بَعد، ويمكننا القول أن أدباء القرن العشرين على وجه الخصوص قد تكَبدوا عناء رفعة شأن اللغة وإعلاء راياتها كسابق العهد مرات ومرات، إلا أن اللغة ذاتها مازالت في كبَّدٍ إلى يومنا هذا.
فمِن أهلها مَن يُحاربها ويقذفها بكل باطلٍ، كانعدام مجاراتها للحياة اليومية وتصلبها وعدم بلوغها التطور والتجدد المنشود، ومن أهلها من يقترف الذنب الأكبر من مجرد انتقادها ومهاجمتها، لكنه يواصل التنصل منها وتجاهلها ولا يكف عن ذلك، حتى أننا رأينا الأمهات يحرصن على التحدث لأطفالهن بلغات مُغايرة، -بالطبع لا بأس بتعلم اللغات الأجنبية- ولكن أين اللغة الأم من بناء أساس تكوين الطفل وإدراكه ومنشئه عليها.
إلى أن صارت اللغة تلملم أشلاءها المُتناثرة من شدة الهجمات المترصدة لها. لذا فلا مانع -بحسب اعتقادي- من أن نعودَ فنذكِّر ونعدد فضائل اللغة وأهم المشاكل التي يجب علينا التغلب عليها في سبيل اللغة…
ولما كانت القراءة والمُطالعة كهواية أو ممارسة متاعاً للجميع وليست حِكراً لأحد بعينه، فكذا هي الكتابة وهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ في الأساس.
وفي الكتابة ألواناً عِدة ومواضيع كثيرة، والشاهد أن مرض العصر وآفته هو الاكتئاب، فقد كَثُر كُتاب الكآبة، فاتخذتُه مثالاً.
وكاتب الكآبة، أي أنه كاتبٌ بالقوامة والمقاييس والمعايير المنضبطة للصنعة والتي ليس مجال ذكرها هاهنا مفتوحاً.
ولكنه في الأخير وعلى الأقل يعرف ماذا يكتب وماذا يترك، ويعرف متى يستفيض ومتى يُمسك. أما الحزين/ المكتئب الذي يكتب فهو فاعلٌ للفعل غير مُبالٍ بالصنعة وحُسن إتقانها وجميل صياغتها وإظهار لُغتها بالصورة المطلوبة.
ذلك أنه إن كانت الكتابة تنفيساً عن مشاعر مكبوتة بالصدر، ضائق هو بها، فلا بأس، شَرط أن القائم بالفعل لا ينبغي أن يعتبر نفسه الفنان الرهيب الفريد ويتصنع الموهبة لمجرد أنه استغلها في التعبير عن مكنون صدره يوماً.
ربما هنا هي حالة من اختلاط الزبد وما ينفع الناس معاً، لا لم يذهب الزبدُ جُفاءً وإنما يبقى ليشوش الصورة. وهنا الإشكال فبما أنه لا ضير من ممارسة الكتابة من هاوٍ أو محترف، أو قوي أو ضعيف أو حتى منفس عن غضبه، فقد يكتب المرء سطوراً ولا يلقي لها بالاً، هو فقط كتبها لأنه أراد أن يفعل، ثم يأتي جمع ما -رُبما من الجاهلين باللغة أو غير العابيئين بها أو المهملين لها-، يتبادلون إلباس الفاعل عباءات ليس أي منها في قياسه، بدايةً من عباءة الكاتب إلى عباءة الفنان أو العبقري وهو -الفاعل- بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
لم يضع نفسه في أي موضع غير موضعها، إلا أن هؤلاء الآن وقد ألبسوه تلك العباءة وقد وضعوا على عاتقه مسؤولية حفظ القواعد اللُغوية والحفاظ عليها والالتزام بها، لأنه قد حمل راية اللغة.
ثم نقع نحن في الشِرك، فمن المسؤول ها هنا، الجَمعُ الحاكم، الذي فقط أبدى رأياً وتمسك به بشدة، أم الفاعل والذي هو فقط اتخذ الفعل عزاءً له ومنفساً.
حقاً لماذا لا نجيء بها البر ونلتزم بموضوعية الرأي وانفتاحه ليس إلزاميته والحُكم به؟
لماذا لا نتريث وندقق فيما نمنحه اهتماماً عالياً ومساحة كبيرة وعرضاً في مختلف المحافل والأماكن والمناسبات؟!
لهذا لا ينال المستحِق اهتماماً قدر عنائه حتى في إتمام الصنعة باللغة المضبوطة.
فيظهر النص الأنقص كواجهة للغة، التي هي في الأساس -اللغة العربية- في حرب ضروس ضد أعدائها التقليدين فما بال هذا الإشكال الجديد.
الواقع أن الأمر الوحيد الذي لا شك فيه، أن اللغة قد نجت بنفسها، مراراً من معاركٍ تطاحنت رُحاها، ومازلنا نؤمن بأنها -بتراثها المجيد وبمجدديها المنضبطين- ستفعل هذه المرة أيضاً.