في الأسبوع الأخير من الحملة الانتخابية لتشريعيات 1989، ومع احتدام استعدادات البلاد لأول انتخابات ديمقراطية مع “تغير” بن علي، أصبح التناقض أكثر وضوحا في علاقة للمعارضة والسلطة والحزب الحاكم.
محمد الأخوة رئيس القائمة البنفسجية (حركة النهضة) في اختتام الحملة الانتخابية في بورصة الشغل قام باستحضار شديد الوضوح من خطاب الإخوان المسلمين “الحكم لله” وأن على الدولة حسب تعبيره” أن تراعي أحكام الله تعالى فيما أحله وفيما حرّمه ولا بد أن تكون الشريعة الإسلامية متجلية في الحكم وفي مصالح الناس..”.
هذا التنزيل العقائدي للخطاب السياسي، حول الانتخابات تتحدد داخل مقابلة حزينة لا ديمقراطية بين فاعلين كبار (الإسلاميين/الحزب الحاكم) محددة على مقابلة بين المقدس الدنيوي، العلمانية/الشريعة، والأهم بين الدولة الديمقراطية وخطر الحكم الديني الفاشي.
انتخابات أفريل 1989 حسب الاستقطاب الأيديولوجي الذي دفعت إليه (سلطة ومعارضة) والتي سمحت باختبار التصويت المفيد Vote Utile والعقابي Vote Sanction لأول مرة بينت أن التموقع السياسي حكام/ معارضة ينطوي على تعقيدات أكبر من العملية الانتخابية ذاتها.
إقرار لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين الانتخابية اعتماد عتبة بـ 5% للانتخابات التشريعية من خلال تنقيح وإتمام القانون الأساسي المتعلق بالانتخابات والاستفتاء، أثار جدلا داخل الأحزاب المعارضة (المعني الأول بهذا التغير). إذ أن تمريره في البرلمان سيكون بداية لتشكيل مشهد سياسي مختلف في علاقة أحزاب الحكم المهيمنة والمعارضات، والأهم أدوار المعارضة على ضوء مواقعها المتوقعة بعد انتخابات 2019 المفصلية في تاريخ البلاد.
جمهية بوصلة قامت بتنزيل عتبة الخمسة بالمائة على انتخابات 2014 فكانت النتيجة؛ انتقال 34 مقعدا من مجلس النواب إلى النهضة ونداء تونس وهو ما يمثل 16% من مقاعد البرلمان الحالي وفقدان الجبهة الشعبية لـ10 مقاعد وهو ما لا يمكنها من تكوين كتلة، فقدان الاتحاد الوطني الحر لـ6 مقاعد من أصل 16، وخسارة آفاق تونس لـ6 مقاعد من أصل 8، وعدم تمثيل التيار الديمقراطي وحزب المبادرة في المجلس على الإطلاق.
الحديث حول هذا التغير بدأ منذ سنة تقريبا، في إطار مزيد “شد حزام تحالف الحكم” بين تحالف نداء تونس وحركة النهضة المنسجمتين نسبيا إلى حدود تلك اللحظة، في الوقت الذي كان حزب نداء تونس محافظا على تماسكه الظاهر وقاطرة للحكم منذ انتخابات 2014. بالتالي سيكون هو وحليفه المستفيدين الحصريين في توسيع دائرة الهيمنة نحو سيطرة كلية على مشهد البرلماني.
الآن؛ مع التغيرات الدرامية في أوزان الفاعلين، تمرير قانون “تصفوي” بهذه الشاكلة ستكون أحزاب الحكم نفسها أولى ضحاياه، بالنظر إلى تفتت النداء ووزن الشاهد الذي لم يوضع على محك الاختبار الانتخابي والنتائج الهزيلة لمحسن مرزوق وحزبه في البلديات..
أدوار المعارضة عادة تحددت حسب طبيعة النظام السياسي القائم والظروف الاجتماعية الاقتصادية فيها. في بريطانيا مثلا، أحد أعرق أنظمة الحكم البرلمانية، المعارضة تتمثل في الحزب الذي لم يحصل على الأغلبية في الانتخابات التشريعية، والذي يمكن أن يطلق عليه أيضاً حكومة الظل أو الحكومة البديلة، ولزعيم المعارضة اسم رسمي هو “زعيم معارضة حكومة صاحبة الجلالة. وتطرح نفسها كحكومة مستقبلية في حالة فشل الحكومة الفائزة في الانتخابات التشريعية.
أما أمريكا، نظام الحكم الرئاسي الأبرز في العالم، يكون الحزب الحاكم حزب الرئيس الفائز في الانتخابات حتى لو سيطر الحزب المعارض على أحد المجلسين أو كلاهما.
في عهد بن علي كانت المعركة التي كانت سقفها الحريات العامة؛ حق التنظم والتظاهر، توجه التناقض الأساسي بيت السلطة والمعارضة في امتلاك المشروعية السياسية للوجود في مواجهة شمولية الحزب الواحد.
الآن؛ مع انفتاح العمل السياسي (بقوانينه الليبرالية طبعا)، أصبح رهان معركة المعارضة؛ أولا، الفعالية السياسية في تشكيل المشهد السياسي خارج منطق الأغلبية والهيمنة/الأقلية والتبعية، والأهم خلق انسجام حقيقي بين طبيعة النظام السياسي ودور المعارضة فيه من أجل تكريس مبدأ حركية الديمقراطية القائمة على أساس التشارك والتعددية.
لا يوجد أقلية سياسية ثابتة في وضعية المتغيرات الحالية المرتبطة بانعدام التوازن السياسي في البلاد. وانعدام الثبات هذا مهما كانت معايير التصنيف والمعايير في علاقة الأحزاب الحكم والمعارضة مرتبطة بالاجتماع السياسي الحالي في نهاية المطاف.
الجبهة الشعبية أكبر تجمع سياسي قومي/ماركسي معارض. كانت الأقلية الأكثر حركية داخل المناخ السياسي المعارض بعد الثورة. إذ أنها في انسجام مع مطلقاتها الأيديولوجية “الاحتجاجية” الأقدر على التواجد بفاعلية في فترة الوقوف ضد المد الديني المرافق لسيطرة حركة النهضة على الحكم، مع أنها لم تنجح لاعتبارات شتى بنيوية وسياسية على استثمار الاحتجاج الشعبي الذي قادت الكثير من فصوله لتحويله إلى حاصل انتخابي.
سريعا، وتحت وطأة “التوازنات” تم دفع “الكتلة الشعبية” التي توحدت من محازبيها وصولا إلى مثقفيها في التحام ظرفي بين المطالب السياسية والاجتماعية (أحداث سليانة، الاحتجاجات ضد قانون الميزانية، الاحتجاجات الاجتماعية) نحو معركة “اعتصام الرحيل” وتم اعتصار ما تبقّى لدعم حمة الهمامي في الانتخابات الرئاسية.
هذه الأقلية السياسية الساكنة أيديولوجيا والنشطة سياسيا تشهد متغيرات بنيوية جوهرية تحدد أساسا في نهاية الملكية الحصرية للسياق اليساري لصالح أحزاب يسارية ماركسية وقومية أخرى أو تيارات ليبرالية اجتماعية أكثر دينامية في طرح مفاصل محدد من المشروع الاجتماعي.
المعارضة الليبرالية التقليدية التي اكتسبت مشروعية نضالية بوقوفها ضد استبداد الحزب الواحد، لم تنجح هي الأخرى في تثبيت موقع دائم وانتهت هي الأخرى إلى أقليات غير فاعلة. ربما (أحد الأسباب الجوهرية) أن المعارضة في مستواها الذاتي تتحرك نحو الثبات والانعزال عن بعضها، وليس نحو التمازج والاختلاط.
في المحصلة؛ إشكالية موقع المعارضة مسألة أكبر من تحوير القانون الانتخابي وترفيع سقف العتبة (على أهمية نتائجه طبعا)، الإشكالية هنا طبيعة شكل الحكم الحالي وانسجامه مع التحول الديمقراطي والدور الذي يمنحه للمعارضة المكون المهم في النظم الديمقراطية.
دور المعارضة الذي ينظر له بكثير من الريبة والتخوين في أحيان شتى، هو رغبة الماسكين بزمام الحكم لمواصلة الاختلال السياسي والهيمنة الأحادية على تشكيل مستقبل البلاد.
في الوقت الذي تعجز فيه المعارضة ذاتها على خلق استقطاب سياسي جديد خارج ثنائية التحالف الصميمي بين النظام القديم وبيروقراطية جهازه الخاملة والإسلاميين القوة “الجماهيرية ” الأكبر ذات النزوع الهيمني اللاديمقراطي.