في النفس البشرية الكثير من المثقلات التي يعجز عن حملها الإنسان، هناك الكثير من الأمور التي تخفى عن العقل، الميزان والضمير، لكنها تؤثر في الكثير من مجريات الأحداث وتقلبات الأزمان؛ وعلى هذا الأساس يحاول الفرد الإنساني اجتياز الفلك المعرفي وفق تصوراته الذهنية الغريبة، لتتصاعد الأجهزة الذرية القابعة في الروح الإنساني من أجل استشعار مخلفات لطالما تسولها الإنسان من غيره؛ أحداث كثيرة تقع ونواجه تداعياتها بلا مبررات، وقائع عديدة نجد أنفسنا في مأزق منافستها دون حجج، ومواقف كثيرة أيضا ندرك عمق آلامها التي تنبعث منها، لكننا نؤكد على خوضها بلا تردد، وهذه بالذات ما يجعل الفرد الإنساني مجهولا وجاهلا بجاهليته تماما.
ما يقع في الإنسان لن يفهمه غيره مهما اجتهد في ذلك، لكنه يقع، وهذا هو الغريب الذي لا دواء له أبدا، هي عودة إلى الأصل بغلاف التواجد المعاصر للكائن الحي، لهذا من الغريب للغاية أن نجد من يتعامل مع الفرد الإنساني كآلة، أداة أو خشب، فكون أنّ الإنسان لا يتعدى ذاته المحصورة في كيانه أو قالبه، فإنّ الغضب الوهاج للروح الإنساني هو ذاك القابع على شذرات طرقات الحياة بلا رضى.
يستبسل الإنسان في قتال كافة منتوجات العلامات البنائية للمد البشري الهائل الذي يدور من حوله، يحاول على الدوام الأخذ بناصية الفهم الذي يجعله أكثر بهاء بين تفاصيل البشر ومعاني مدركاتهم، يعيد حساباته بين الفينة والفينات من أجل التقاط ما فلت منه من تيمة زاغت بلا براهين، لكنه غالبا ما يفشل، فيحاول إنكار فشله، ثم يستسيغه في النهاية، ليعيد البوصلة إلى خارج دائرته من جديد، فتصبح حنكته في مهب الرياح مجددا، والآخر هو هدف حروبه أيضا.
الإنسان لا يعني الإنسانية بتجلي حضورها الغريق على مساحة محدودة المعالم، ومع ذلك سنجد الكثير من التبريرات تحمل بين طياتها أدلة على اتهاماتها الجريئة، ليس هناك من اتجاه يخرج من العَدَم، والإنسان ليس استثناء؛ يهوي الفرد العابث في حفرة الروح السحيقة دون دراية منه، تجده يجدّف بكلتا يديه طلبا للصعود من مكنونات حارقة للغاية، هو لا يستسلم، هو يدرك مدى المخاطر المحيطة به، ومع ذلك يحاول الوقوف من جديد، لأنه يعلم مسبقا بأنه في حرب دائمة لا تنتهي سوى بوفاته، أو رحيله إلى العالم الآخر.
الإنسانية لا تعني الإنسان، فهذا الأخير يسكنها ولا تسكنه، يهجرها فلا تأبه به، يغرف من دناياها بشكل كثيف ومستل على حافة الوجود وبلا عنوان أصلا، ومن هذا المنطلق، يصبح الفرد الإنساني غافلا عن توترات الحياة في لحظاتها الحاسمة، لهذا نجده يخبط خبط شعواء في مواقف المصير، لأنه قادر على التجلي ومساندة ذاته فقط، لكن في مواضع الجدّ، هو لا يقبل على ذلك بكل اقتدار، كثير من التقاطعات الخفية هي ما يحرّك الإنسان وتدفعه إلى إعادة فهم ما يجري بعد فوات الأوان وضياع الفرص، في أوقات كثيرة، فرصة يسيرة، تعيد عقرب الوقت إلى مكانه الذي كان يشغله في البدء، وقد تغيّر اتجاه الأيام للأبد.
جلوسٌ لمدة قصيرة بقرب طاولة مقهى صباحا، حين يكون معظم الناس نيام، في مقابل ذاك النسيم الصباحيّ البارد الذي يجعل الفرد الإنساني ينعش ذاكرته وتذكاراته ومذاكراته ومذكراته، قد يفي بالغرض، قد يجعلك تقف على مراجعة الأهواء بموازين العقل، لتكتشف كم كنتَ مخطئا، إذ أنّك قد وقعتَ في إحدى الخطيئتيْن: إما ضخمتَ قدراتك، أو قللتَ من قيمة مهاراتك؛ العلاقة بين الإنسانية والإنسان كالعلاقة بين الابن العاق ووالدته، لهذا تجد كلاهما غير راغب في ترك الآخر، لكن ولا واحد منهما قادر على تحمّل الآخر حتى النهاية.