القرن الواحد والعشرون أثبت سذاجة البشر، أثبت سذاجة الأمم، أثبت بأننا كأفراد لم نعد نهتم بأيّ شيء آخر غير التفاهات، لقد تخلينا عن العقل والوجدان والضمير، وانغمسنا في الوهم والخيال، توهمنا إقامة دول وحضارات، إلى درجة أنّ ذاك الجرماني الأصيل قد نادى بنهاية التاريخ، ولكننا في الواقع لا نزال نحتكم إلى القبلية والبربرية العشوائية.
أوهمنا ذواتنا بأننا إنسانيون وقد حاولنا إثبات ذلك بالموسيقى والفن والمسرح وحتى التصوف والاعتدال، لكن في حقيقة الأمر لا نزال نذبح بعضنا بعض بأسماء كثيرة، الدين إحداها والوطنية ليست منتهاها، وآخر أوهامنا وليست الأخيرة بالطبع، هي “روحانياتنا” من ديانات وفلسفات، لكن بالمقابل نحن ننغمس في حبّ “المادة” المال والجواهر وكل ما هو تقني من منازل، سيارات وأدوات، كل هذا على حساب أرواحنا، إذ تركنا هذه الأخيرة أمام هجمة وول ستريت بلا رداء.. لما كلّ هذا النفاق؟
عندما ترى شيوخا همهم الوحيد هو الورقة الخضراء “الدولار” فإنك ستشعر بالخلل، فكيف برجل دين مثل هذا، صدّع رؤوسنا بكلامه عن الزهد والرفعة والسمو بالروح أمام “الخالق” من جهة، وحديثه الذي كان يطول أمام شاشات التلفزة وعلى صفحات النت حول فضائل الزكاة والعفة من جهات أخرى، أن يصبح عبدا للدولار والبترول؟
في واقعنا اليومي أمثلة كثيرة عن مناضلين يضحون من أجل الوطن، وهم الذين يحاربون من أجله بين أروقة المؤتمرات وبين غرف الفنادق، يرمي بهم الظلم إلى المهجر، لتكتشف بعد زواله بأنهم قد أقاموا تجارات بالمليارات، واشتروا فيلات وسيارات، من ضرائب كانت تُفرض على كل حالم بالحرية، تجمعها أيادي داخلية لتسلمها إليهم، هؤلاء الذين كانوا يسميها الداخل بالأيادي الخارجية؟
بين جنباتنا قصص كثيرة عن ابن قتل أمه بسبب رفضها منحه بعض الدراهم أو بعض الدنانير، عن مساكين ماتوا جوعا على قارعة الطرقات بينما ببعد أمتار من قبورهم الدنيوية توجد قاعات فخمة للمسؤولين وصانعي القرار.
الفتاة أو المرأة في بلداننا كل حلمها زوج مرتاح الراتب، لا يحاسب ولا يراقب، يصرف عليها بلا معيار، بحيث تصبح كل مؤهلاته بذخه الذي يقيم له الوزن بين أفراد المجتمع والاعتبار، هذه العقلية المؤنثة جعلت من الأنثى بين خانات العبيد، ليس بالسوط والحديد، وإنما بواسطة اليورو أو الدولار المجيد.
الشاب بين شوارعنا إما عامل أو سارق، وكلاهما هدفهما الوحيد كسب تلك الخرق الخضراء من أجل تأمين حياة عائلية-اجتماعية شريفة، فالمرء لم يعد يكسب شرفه بالعقل والعلم، بل بما يوجد في الجيب والفم، فذاك ما يدفع عنك الظلم ويرفعك مكانتك بين العوالم كلها، فتصبح إن ما توفر الكثير في حسابك البنكي أرقى من الأمم؟
الطفل في مجتمعاتنا خُطف من البراءة، صار يحب بدل الألعاب والحضانة، أكياس المال والحصانة، فبدينار أو دولار ينسى الطفل أمه وأبيه، وحتى من ستصبح صاحبته مستقبلا وبنيه، سطوة النقود أو المال قد تغلغلت حتى في ضمائر الصغار، وقد دخل كل دار، اشتري لطفل بعض الحلوى، وعوده على هذه العادة كل مرة، بعدها اسأله إن كان قد بدأ في تلفظ الكلمات إن كان يحبك أنت “صاحب المال والحلويات” أم يحب أمه صاحبة العطر والنسمات!
إذا كانت النقود قطعا، فهي في الأصل أرخص من المعدن التي صُنعت منه، وإن كانت من ورق فهي أتفه من الورق والحبر اللذان يشكلانها، ومع ذلك ستجد كل يوم سكان عالمنا يستيقظون وهم يفكّرون فيها، وفي كيفيات كسبها، زيادتها أو الحفاظ عليها، حبا وعشقا فيها، لا لسبب سوى أنهم يعتقدون بأنّ تلك الأوراق التافهة هي سبب سعادتهم، قوتهم ومكانتهم بين أفراد المجتمع، فبؤسا لمن عبدوا الورق حتى ماتوا بسبب ما يسببه معبودهم من قلق وأرق.. عذرا.