لدي واجبات مالية شهرية كثيرة، تسديد ديون، دفع فواتير، لم جمعيات من المشتركين أنشأتها أيلول الماضي، قد تحسبها جمعيات كبيرة تصلُ لمئات آلاف الليرات، وهي كما يُقال: “الله لا يفضح حدا كلها مية ألف ليرة”، موزّعة على عشرة أسامي، أي كل اسم يدفع شهرياً عشرة آلاف، وأنا عليّ جمعها.
محمد سقباني أحد صاحبي تلك الأسماء يسكنُ في حي “النبعة” من الأحياء العليا جداً في الصالحية، إذا لم تباغته وتفاجئه وتقطع عليه الطريق، لن تصيب منه شيئاً، ما جعلني أصعد بنفسي إليه كل شهر لأجلبَ اشتراكه، ولا أبكي فقداني عدة كيلوغرامات من جسمي “أصلاً كلّي عرق ونص” كما تصفني أمّي.
بالقرب من محمد توجد بقّالية صغيرة يديرها درويش ثمانيني من دراويش الجبل، في كلِّ مرّة أصعد لعند محمد وأنزل أراهُ مستمعاً لـ أم كلثوم وخاصةً رائعة مأمون الشناوي وبليغ حمدي “بعيد عنّك“، تكرّر هذا الأمر ثلاث مرات، أي ثلاثة شهور، سألتُ محمد في المرّة الثالثة: ما حكاية الرجل؟ أخبرني أنّه لا ينفكُّ عن سماع “بعيد عنك” من الصباح إلى المساء، مُذ أن عرفناه إلى الآن!
تحسّستُ وجودَ قصّة وراء هذا الأمر، وقرّرتُ أن أصعد إلى منزل محمد بغير أيام “الجمعية”، لأتأكّد بنفسي.
أتى كانون الثاني والمفروض أن أكون عند محمد في العاشر منه، لكنّي ذهبتُ إليه في اليوم الأول والثاني والثالث والرابع، ومررتُ بأبي عدنان، وأيضاً وجدته سارحاً متأملاً بصوت الست في: خُد من عمري، عمري كلّه إلا ثواني أشوفك فيها، وقطعتُ شكّي بيقيني، دنوتُ نحوَه وطلبتُ بعد السلام “علبة سجائر”، أعطاني مرادي، ورمق تردّدي واضطرابي، أريدُ أن أعرف ما قصّتها، قال لي: “أنت ما بدك باكيت دخان (علبة سجائر)، شو بدك لك عمّي؟”..
قلتُ له إنّني أريدُ معرفة سبب إنصاتك آناء الليل وأطراف النهار لبعيد عنّك، وفي اللحظة هذه خرج صوتٌ من المذياع يشير إلى أنَّ حفلة الأغنية هذه كانت في بعلبك بـ لبنان، صمت وأدار ظهره ثمَّ قال: “ضليت أربعين سنة كاتم هالسر بدك ياني قلك ياه الك؟ روح عمو روح!”..
رجعتُ لمنزلي وقتَها، وعدتُ أربعين سنة إلى الوراء، ووجدتُ أنَّ أم كلثوم تلت تلك السورة من قرآنها في بعلبك بلبنان عام 1968، لكن ما علاقة هذا بأبي عدنان؟ وما السر في الأمر؟
عدتُ إليه في اليوم التالي، بصراحة خفتُ أن أدنو نحوه فيطردني، لذا بقيت حائماً في الحارة أستمعُ معه لـ”عيون كانت بتحسدني على حبي ودلوقتي بتبكي علي من غلبي”، أشاهد محمد يأتي إليَّ من بعيد، يقترب ويقول لي مازحاً: “شو عم تستنى الجمعية من أبو عدنان؟ استنى لحط إبريق الشاي وراجعلك.”..
لاحظ أبو عدنان حومي في الحارة وخوفي من الاقتراب نحوه عدّة أيام، وفجأة في منتصف هذا الشهر دعاني لشرب كوبَ شاي عنده، اقتربت وسيطر علي الصمت، أخاف أن أقولَ شيء فيطردني..
أخبرني أنه لم يفصح عن هذا السر لأحدٍ قط! ويريد إخباري به، إذ أنه في عام 1968 كان عمره 30 سنة وكان يحبُّ فتاة من حارته، لكنَّ أهلها زوّجوها لغيره لأنه “عايف التنكة”، وسمع أن أم كلثوم ستأتي إلى بعلبك في تموز، ومن شدّة احتراقه أراد أن ينصتَ لأم كلثوم وجهاً لوجه، فسرق أسوارتي ذهب من أمّه وهرب إلى لبنان قبل شهر من الحفلة، دون أن يخبر أحداً، وحضر “بعيد عنك” في بعلبك بعدما اشترى تذكرةً من أحد سماسرة الحفلات، ورأى الست وصافحها، ثمَّ عاد إلى دمشق لينصدم بوفاة أمّه التي تعاني من مرض السكري، ماتت حرقةً من طيشه، وكان سيخبرها بقصة الأساور لولا ذلك، ماتت دون أن تعرف من سرق الأساور.. عرفت سبب سماعي لها؟ عرفت سبب حزني؟ قال لي ذلك ولم أجد أي إجابة أردُّ عليه بها سوى: الله يرحمها يارب.
اليوم قرّرتُ أن أذهبَ لأعزّي أبي عدنان بالذكرى الثالثة والأربعين لوفاة أم كلثوم التي تصادف الثالث من شباط الجاري، ولم أجده في بقاليته، ولم أسمع صوت الست يصدح في الحارة، ولا ناي سيد سالم ولا قانون محمد عبده صالح ولا كمان أحمد الحفناوي، رأيتُ نعوة أبي عدنان ملصقة على جدار بقاليته، مات أمس بتصلّب شرايين.
من أعزّي نفسي به الآن؟ أبو عدنان؟ أم فاطمة البلتاجي “أم كلثوم”؟