رحم الله السيد “ستيفن هوكينغ” الذي علمنا ما معنى أن تكون قويا روحيا، برحيل هذا الرجل الذي كان وسيبقى أقوى الرجال بقلبه وروحه على الإطلاق؛ لا يكفي المقام للتعبير عن هذه القوة الإنسانية، ولا عن قدرات الإنسانية على الدفع برجل قاوم كل أطراف الحياة الجائرة ليفرض احترام عقله على العالم كلّه، معلما كل الناس ما معنى أن تكون إنسانا.
لن أخوض في إنجازاته فهي متروكة للأرقام والموسوعات، ولا في معاناته فهي متروكة أيضا لأصحاب القلوب اللطيفة، لكنني أحاول التركيز على تلك القوة العقلية النابعة من داخل جسم متهالك غير صالح للعيش، فتحفزه لتقيم على أساسه أيقونة لا جدال حول امكانياتها العلمية والنظرية، ليصنع اسم “هوكينغ” الحدث كنبيّ لزمانه الموحش بنبضة نور أزلي.
الروح البشري لها خصائص كثيرة وغريبة، ومحاولة الخوض فيها كمحاولة هزيم الظلام بسكين مهترئ، لكنها تبقى مرتبطة بحضور وجودي يجعل الحياة قائمة ومستمرة وغير خاضعة، متحدية للشروط والظروف في الكثير من الأوقات، تبقى حالة السيد. هوكينغ رحمة الله عليه من أهم الحالات وأعظمها في تاريخ البشرية كله.
نزل خبر وفاة هذا الداهية على روحي موقع الصدمة، فعلاقتي بهذا الاسم تعود إلى أيام الجامعة الجزائرية، عندما كنتُ طالبا على مقاعدها أعاني البيروقراطية والرداءة وسوء التسيير، ملامسا ومعايشا لأساتذة جهلة، وأنــا في هذا الوضع البائس، كنتُ دائما أحاول البحث قصد العثور على قصص تحفزني على الاستمرار في مساري العلمي والفكري، وإذا بي أعثر على بعضها، وكانوا كلهم من عظماء عاشوا في أزمنة بعيدة عن عصري، لعل أبرزها جنكزخان في الحروب، كيسنغر في السياسة، مالك بن نبي في الثقافة، ستيفن كوفي في التطوير البشري.. وكانت المفاجأة عندما صادفتُ قصة حياة هذا العالِم، فوقعت في نفس موقع الهزة القوية.
السيد. هوكينغ رحمه الله، هو قريب مني زمنيا، فأنا معاصر له، أوّل معلومة أدهشتني وقتها، هو شغله لمقعد أستاذ كرسي بجامعة كامبريدج وهي من أهم الجامعات في التاريخ، إضافة إلى براعته في العلوم الدقيقة جامعا ما بين الفلك والفيزياء والرياضيات والطب، وهذا يعتبر معجزة بكل المقاييس إن ما عاينا حالته الصحية المستعصية.
في رقبتي دينٌ لهذا العالِم الجليل لا أستطيع ردّه أبدا، سوى بالدعاء له من موقعي بأن يرحم الله روحه ويسكنه فسيح جنانه يا عليم يا قدير.
تضحيات هائلة قدمها هذا الرجل من أجل الإنسانية، ألهم الكثير من المظلومين بتصميمه على الحياة والنجاح، أبحاثه أنقذت الكثير من المرضى من الهلاك وخففت الكثير من الآلام، دفعت مجهوداته في مجال الفلك بالعلماء إلى الاقتراب من فهم أسرار الكون بأشواط، وما كتابه سنة 1988م من القرن الماضي سوى نقطة من بحر نظرياته، رغم أنّ ذاك الكتاب كان ولا يزال ثورة عن كل النظريات التي سبقته في مجالات “الثقوب السوداء” في هذا الكون الشاسع.
سواء كان السيّد. هوكينغ مؤمنا او كافرا، ملحدا أو متدينا، داعيا إلى الإلحاد أو إلى الإيمان فذاك شأنه، يخصه وحده، وما نحن إلا كسائر البشر لا قوة ولا صلاحية لنا لمحاسبته أو معاقبته، لكن ما يجب علينا هو الاعتبار من حياته والأخذ بطرف خيط إنجازاته، لأنها هي بالفعل قبل القول، معجزة بحق، شهدها زماننا ولا أعتقد أنها ستتكرر قريبـا، رحم الله السيّد هوكينغ، أقول هذا بعيون مليئة بالحزن (con gli pieni di malinconia).
ما أحزنني ليست وفاة السيّد. هوكينغ رحمه الله بقدر ما أحزنني تفاعل الأمة العربية-المسلمة مع خبر كهذا، فتلك الغشاوة التي نزلت على أفئدة بعض أبناء جلدتنا لم يمسكوا من أفكار هذا العالِم الجليل سوى قضية تدينه وإيمانه من عدمه، وهي ذات الغشاوة التي غمرت أرواح بعض أحبائنا منذ وفاة ابن رشد ولا تزال تفعل فعلها في أيامنا إلى غاية يومنا هذا.