كثيرٌ مما في الحياة نبغضه بشدة عندما نقترب منه جدًا، وكأنّ بعده المعنوي من القلب يتناسب عكسياً مع البعد الفعلي، وهذا يدفع للتساؤل، أيّهما أفضل؛ التعرف على الأشياء والأشخاص من بعيد والعيش في وهم لمعانها، أم القرب وتَحمُّل لسعات الصدمة من حقيقة المساوئ؟
أنحيا موهومين مرتاحين أفضل، أم واعين مُتعَبين أحسن؟
والمُتأملُ في علاقاتِ الناس يجدُ أن كثيراً منها يَشوبُه التوتر وقد يتطور ذلك إلى مشكلاتٍ تكبرُ مع الوقت، وحين تبحثُ وراء أسباب ذلك تجد نفوساً قد ملأها الحزن والغضب، فذلك يُعاتِب وذاك يَهجُر وهذا يَتساءلُ عن السببِ وراء تَغيُّرِ تعامُلِ شريكِه معه، وإذا دققت النظر أكثر تجد رابطاً مُشتَرَكاً بين الجميع، الكل يرى العلاقةَ من الجهة الأُخرى، يُقيّمُها من الناحيةِ الأبعد، وكأنّه مُستقبِلٌ لا مُشارِك.
أيُّ منطقٍ ذاك الذي يَدفعُنا إلى وضع أنفسنا في موضع البراءة والسلامة من كل مسؤولية ووضع الآخرين في موضع الاتهام دائماً؟
أنرى أنفسنا بلا قيمة وبالتالي بلا أثر فنلقي باللَّوم على الآخرين بما أنهم أصحابُ الأثرِ الذين أعطيناهم دفةَ السفينة؟!
أم أننا نحيا في وهم كونِنَا رائعين فوق مستوى الخطأ..؟
وبين الفضل والفرض غَرِقت كثيرٌ من العلاقات في بحر المشكلات، وتحطمت معاني فاضلة حين فقدت ببساطة جوهرَ جمالِها عندما نُقِلَت من مكانها الأصلي في عالم الفضيلة إلى مكانٍ مُغتَصَب من عالم الفرض والواجب، نُقِلَت من كونها مصدر سعادة إذا حدثت إلى كونها مصدر تعاسة إذا غابت.
أيُّ عقلٍ ذاك الذي نسعى به لهدم مواطن الجمال في كل معنى؟
إنَّ جمال الفضيلة الحقيقي يكمُن في كونها فضلية، ينبع من حقيقة أنها شيء غيرُ اعتيادي، غيرُ مُنتَظر أو مُتوقع، شيءٌ خارجَ حقوقِنا ولكننا نحصلُ عليه ونتنعمُ به، أما الفروض والواجبات والحقوق فكلها يُوضع دائماً تحت بندِ “حق مكتسب”، تحت إحساسِ “العادي والطبيعي والمفترض” والذي بالطبع ليس من الطبيعيّ أن يَعقُبَه شُكرٌ خالص أو بهجةٌ غيرُ اعتيادية أو شعورٌ فوقَ العادي.. لأنه ببساطة “عادي” كيف بالله نُطيقُ تحويلَ حياتنا بأيدينا إلى ذاك النسقِ المزعج؟
ومن جانب آخر، حين تتأمل مثلا؛ حال الذين يكملون صلاة التراويح في رمضان في جماعة حتى النهاية تجد أن الأمر لا يتعلق فقط بفضل الشهر بل إن هناك عوامل أخرى نفسية تيسر إتمام الأمر، فوجود قائدٍ (الإمام) يؤمهم يُقلل الضغط النفسي والعقلي عليهم، فيصبح الأمر يسير هين حتى أنهم قد لا يستشعرون التعب أبداً وقد يستشعرونه بعد كثيرٍ من الركعات، أضف إلى ذلك تواجدهم وسط جمعٍ يفعلون نفس الشيء في نفس الوقت مثلهم، والدليل على حقيقة ذلك أن أكثر هؤلاء في نفس الشهر الفضيل لا يستطيعون صلاة القيام كاملة وحدهم بشكل منتظم كل يوم.
وإذا عدت لتتأمل قوة الجماعة في كافة نواحي حياتنا تجد أنها تجعل كل شيء أيسر على النفس فتصبح الخطى أسرع وأقوى، وهذا سلاح ذو حدين فلو أننا أخطأنا اختيار الجمع الذي ننضم إليه لصارت أخطاؤنا أيضاً أيسر وأكثر، إن الوحدة يا صديقي رغم أنها في كثيرٍ من الأحيان تُريحُنا من كثيرٍ من عناء الخلطة بالناس إلا أن خُطانا فيها ثقيلة إلى حد ما، والنفس تستوحش الأمر إذا طال.
فكن بين الأمرين مُتوازن، لا عُزلة تستنفذ الهمة ولا جمع يُثبِّط العزم أو يُفسِد النفس!
إنّ العلاقات الإنسانية عجيبة قادرة على تُحريك مشاعرنا -سواء بالإيجاب أو بالسلب- إلى درجة تغيير شخصياتنا وأفعالنا ونسق حياتنا، حتى حين تصبح مجرد ذكريات يظل لها تأثيرها الخاص.
وعلى ذكر ذلك فإن الذكريات عالم مميز عجيب فمعها نبتسم، نضحك، نحزن، نبكي، وكأننا لازلنا نحياها، ورغم أننا دائماً ما نتطلع إلى المستقبل ونتعجله لدرجة أننا قد نغفل عن حاضرنا إلا أنه حينما يأتي ذاك المستقبل نشتاق إلى ما قد مضى ونتألم من لسعات ذاك الشوق، وكأننا مجموعة من الحمقى!، أليس ذاك ما كان بالأمس حاضراً غافلين عنه؟! ماذا تغير فيه بعدما رحل حتى نشتاق إليه هكذا؟! أما كان من الأفضل أن نتمتع به قبل أن نفقده؟!
وحين يغمرنا الحزن بأمواجه ونستشعر قلوبنا يخنقها الضيق والهم، نتفكَّر ماذا كان من الممكن أن يحدث لنا دون النسيان؟
الـنـسـيـان
تلك النعمة العظيمة التي تمنحنا الفرصة كي تستعيد حياتنا ملامحها بالتدريج، ذاك العالم العجيب الذي تتوه فيه ذكرياتنا فنحيا كأنّ أشياءً كثيرة لم تكن، كأننا لم نتألم من قبل ولم نذق للفقد طعماً، فتعود لنا البسمة ونعود لنمارس الحياة بشكل طبيعي وبروح يدفعها الأمل.
ولكن.. ما بال بعض الذكريات تمكث معنا أكثر؟! ما بال بعض الآلام تلازمنا عمراً وكلما تاهت فترة عادت من جديد لتذكِّر قلوبنا بالألم؟!
ألأنها مختلفة بذاتها أم لأننا جعلناها كذلك؟ أفسحنا لها مجالاً أوسع من غيرها، وصنعنا منها في الذاكرة نسخاً أكثر فزادت في العقل رسوخاً، وحفرنا لها في النفس موضعاً فصارت كأنها عقبات على طريقنا كلما مررنا بها تعثرنا فنعود لنتذكر فنتألم!
وفي نفس الوقت بعض الذكريات يا صديقي لا تحتاج إلى تسجيل، لأن مجرد حدوثها كافي لحفرها في الذاكرة، وتلك النوعية من الذكريات بالذات دائماً ما يكون لها الأثر الأعمق في حياتنا، فقد تمنحنا سعادة لا توصف وحنيناً يغمر القلوب بدفء جميل وقد تذقينا ألواناً من الألم وكأنها ضغطة قوية على حرقٍ لم يكتمل شفاؤه!
فكيف بالله الخلاص؟ وكيف النجاة من تلك السيمفونية المُرهِقَة؟
إنني دائماً أُوقن أنّ كلَ إنسانٍ هو العنصر الأهم والمُحرك الأساسي في كلِ حدث من حياته، فأنت من تجعل من الذكرى بالونةً ضخمة تُؤذيك إذا انفجرت، وأنت أيضاً من يجعلها كالنسيم الخفيف الذي يمر بك فتتأثر دون أن يُحدِث من الأثر ما يعيق حياتك مثقال ذرة، وبين هذا وذاك يكمن التوازن وكلنا قادرون -بإذن الله- على الوصول إذا أردنا ذلك بصدق، ولا تكون الإرادة صادقة إلا بالسعي وبذل الجهد.
تَعلَّم يا صديق أن تضع كلَ شيءٍ في حجمه الطبيعي وموضعه المناسب، تعلَّم أن تُحب هوناً وأن تُبغِض هوناً، تعلَّم أن تُفسح للذكريات باباً للنسيان وأن تحيا كل لحظةٍ كما هي، تستمتع بها وتتعلّم منها.
حاول، فكلُ شيءٍ مع المحاولات ممكن.
ماشاء الله تبارك الله مقال رائع ومميز في في اختيار حتى أحرفه
جزاك الله خيرا دكتورتنا الغالية ،ووفقك في كل خطواتك
مقال واقعي 👌