تحقيق ذاتٍ أم موت محتم؟

وفي البلدان العربية كثيرون من يتبنون حلم الاغتراب، رحلة مجهولة المصير إلى إحدى الدول الأوربية والتي ستحط عليها الأقدام لأول مرة -مع الاحتفاظ بإمكانية عدم الوصول إليها-. عيون حالمة متطلعة لعيش كريم لا أكثر، لا حرج عليهم إن كانوا قد سئموا أشكال العبودية في أوطانهم والمضي دون هدف مسطر، أو ويلات حرب لا نستبشر لها نهاية، حرب تسلب منهم ذويهم على التوالي وتستنزف دماءهم الطاهرة..

لا خيار لديهم فإنهم لا فاعلون لذلك إلا غصبا عنهم، يرون ما وراء المتوسط جنة تقبل كل الأماني عكس الوطن الأصل ذو واقع خشن لا مجال فيه للحلم، ما جعل كل الأمال متعلقة بما وراء المتوسط..

تجتمع الزمرة بمحاذاة الشاطئ انتظارا للقارب، لا تنظلق الرحلة إلا وقد أسدلت ستائر الظلمة الوحشة التي توزع عتمها على عرض البحر ضمانا للتستر عن الأعين مادامت الرحلة محظورة في القانون..

تصطف الأجساد فوق لوح خشبي لئيم وتتلاطم بتلاطم الأمواج الشرسة التي تبحث في كل آن وحين عن فريسة للأسماك في العمق السحيق، أشباح تدب الخوف في كل نفس، خوفا من ضرب الأماني عرض الحائط، خوفا من أن يصبحوا جزءًا من “ذاكرة المتوسط المرة”..

وكم من بريء يصير في تلك الليلة ضحية أخرى تُضاف إلى تشكيلة الأرواح التي كانت بدورها وجبة للكائنات البحرية ذات ليلة، عِوض أن يحقق لهم القارب ما غامروا من أجله، اختار أن يكون سبيلهم إلى التهلكة. بطالة، حرب وثورات، انتهاك كرامة.. جعلت مصير هؤلاء المهاجرين متشابه ويؤدي بهم إلى العدم..

هنا نسمع عن معاناة أهلهم حين لا يسمعون عن الغوالي المفقودين.. أي خبر يُطفئ لهيب النار في القلب، كأم حرمت من ابنها على يد “رحلة الموت”، وتراها تخلوا بنفسها في كل مكان مازال يحتفظ ببعض من عطر ابنها وتتلمس ملابسه بكل وجدانها لعله ينسيها القليل من هذا الشوق القاتل الذي يلفها، ودموعها منسابة مقبلة خديها مثلما فعل ابنها يوما..

أو كابن تيتم على يد المتوسط الشرس وحين يفتقده يتحسس كتفيه التي استقبلت ذات يوم يدي أبيه لتنجز عناقا عنوان حب بلا مقابل، أو يداعب خصلات شعره هامسا: “شعري مازال يحمل آثار أنامل ابتي حين مسح عن شعري يومها الآهات”.

صعب هو الفقد ألم لا ينطوي. تأتي سنين وتمضي أخرى والعيون مازالت معلقة بأفق المحيط لعله في أية لحظة يعيد لهم فلذات الأكباد، يحملون للبحر نظرة التضرع والرجاء وللسماء دعوات لعلها تُستجاب وتعيد إلى حضنهم أبناءهم، أزواجهم، إخوانهم الذين لم يروا لهم أثرا منذ عهد طويل وهم في الحقيقة قد حملت أرواحهم للسماء بعدما ابتلعهم شبح لا يرحم..

وهناك من يبتسم لهم الحظ حتى يعبروا طول المتوسط بسلام، يستنشقون هواء الأراضي الأوربية وقد تلاشت كل رغبات العودة إلى الوطن الأب، حتى صاروا يحملون له نظرات الاحتقار نادمين على سنواتهم التي قضوها هناك..

ابتسامة الحظ هذه لن تدوم طويلا، سيصبحون دون عمل أو أجرة.. متشردون في الشوارع الأوربية يفترشون الأراضي الباردة، هذا إن لم يكونوا محتجزين.. مفتقرون لجنسية حتى أو بطاقة هوية..

سلام على أرواحكم، لا وطنا وفر لكم أساسيات العيش، لا بلاد مهجر رحب بكم، لا حظ ابتسم في وجوهكم. أين الملجأ وإلى أين وجهتكم؟

سلام على أرواحكم التي ترقد بالسلام، سلام على أرواحكم التي كان ذنبها الوحيد أنها حلمت بالسلام!

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version