ليس معروفاً بعد إلى ماذا ستنتهي إليه مهاترات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وتغريداته وتهديداته، بشأن كوريا الشمالية، ففي وقت لا يمكن معه استبعاد أي سيناريو تحت حكمه، إلا أن تكلفة أي عمل عسكري أميركي، صغيراً كان أم كبيراً، ضد كوريا الشمالية يُعد أمرا صعبا تصوره.
ويبدو أن الرئيس ترامب يتعامل مع الملف، وكأنه صفقة عقارية تجارية، تستعرض فيها وخلالها، كل البدائل المتاحة، وتهدد بالانسحاب باعتباره وسيلة ضغط على الطرف الآخر. ألغى قبل أيام اللقاء المرتقب له مع زعيم كوريا الشمالية، كيم جونج أون، والذي خُطط له ليعقد في سنغافورة يوم 12 من شهر يونيو/حزيران الجاري، وبعدما أعلن البيت الأبيض إلغاء الاجتماع، لم تمر سوى أقل من 48 ساعة، حتى أعلن ترامب بحماس إمكانية عقد القمة، كما هو مخطط لها.
ويبدو أن ترامب وفريقه الرئاسي يعرفون جيدا تاريخ التاريخ الكوري الحديث وتعقيداته، وكيف وصلت دولة كوريا الشمالية إلى ما هي عليه اليوم، ويعد ذلك سببا أساسيا في فشل محاولة جمع الطرفين على نقاط محددة، يمكن التفاوض عليها.
ومنذ وصول ترامب إلى الحكم في واشنطن قبل عام ونصف العام، تصاعدت التوترات في شبه الجزيرة الكورية، ووصلت هذه التوترات إلى مراحل غير مسبوقة، منذ توقف الحرب الكورية عام 1953 وتقسيم كوريا إلى دولتين.
ووصلت حدة التوتر إلى أن تقوم بيونغ يانغ بسلسلة من تجارب الأسلحة، شملت إطلاق عدة صواريخ فوق اليابان، وإجراء تجارب نووية وتفجير قنابل هيدروجينية، والادعاء بقدرة وصول صواريخها إلى الأراضي الأميركية، وهو ما ساهم في تأجيج حربٍ كلامية مع ترامب الذي أعلن قدرته على التوصل إلى صفقة مع كوريا الشمالية على الرغم من ذلك كله، وبدا أنه يحاول الحصول على تقدير في مقابل رغبته في إنهاء النزاع مع كوريا الشمالية، وتصريحه مراتٍ بأن المعضلة بسيطة، تتمثل فقط في معادلة نزع أسلحتها النووية في مقابل إلغاء العقوبات عنها، وتلقيها مساعدات كبيرة من واشنطن وحلفائها.
“يبدو أن ترامب وفريقه الرئاسي يعرفون جيداً تاريخ التاريخ الكوري الحديث وتعقيداته.”
ويتناسى تبسيط ترامب وفريقه معضلة أسلحة كوريا الشمالية، عمدا أو جهلا، تاريخ التوتر في شبه الجزيرة الكورية، فمع انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 انقسمت كوريا (كانت تحت الاحتلال الياباني) بين منطقتي نفوذ سوفييتية أميركية، حدودها خط العرض 38.
وأعلن الزعيم كيم أيل سونغ (جد الرئيس الحالي) تأسيس جمهورية كوريا الشمالية عام 1948، وبدأ حربا ضروسا عام 1950 من أجل توحيد الكوريتين تحت حكمه. تدخلت واشنطن للحفاظ على جمهورية كوريا الجنوبية، ولمواجهة النفوذين، السوفييتي والصيني، هناك.
وقتل في المعارك أكثر من خمسة ملايين نسمة، وشهدت تدخلا عسكريا من أكثر من ثلاثين دولة، كان أهمها الولايات المتحدة التي قتل منها 50 ألف جندي، والصين التي أرسلت نحو مليون مقاتل لمواجهة الولايات المتحدة. وتم الاتفاق على تقسيم الكوريتين، طبقا لخط العرض 38، ولم يتم التوقيع على أي اتفاقيات لإنهاء النزاع، فهناك هدنة من القتال.
على مدى العقود التالية لتوقف الحرب عام 1953، اعتمدت كوريا الشمالية على الحليف السوفييتي القوي الذي كان ندّا للولايات المتحدة. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتقوقع النفوذ الروسي، شعر نظام بيونغ يانغ بتهديد وجودي للمرة الأولى. من هنا، بدأ في التوسع في برامجه الصاروخية والكيمائية العسكرية لامتلاك قوة ردع تبقي على حياة النظام والدولة.
توفي الزعيم كيم أيل سونغ عام 1994، وخلفه ابنه كيم جونغ إل (والد الرئيس الحالي)، واعتمد على الصين في توفير احتياجات الدولة والنظام الأساسية، في ظل عزلة وعقوبات واسعة فرضتها الولايات المتحدة على كوريا الشمالية. توفى جونج إل عام 2011، وخلفه ابنه الرئيس الحالي، كيم جونغ أون، الذي يؤمن بأن بلاده ونظامه الحاكم عُهدة عليه الحفاظ عليها، كما حافظ الوالد والجد عليهما بأي ثمن.
“يتذكّر الزعيم الكوري الشمالي ما آل إليه نظام القذافي الذي تخلى عن برامجه الصاروخية والكيميائية.”
يتذكّر الزعيم جونغ أون تصنيف الرئيس جورج بوش (يبدو أكثر عقلانية من ترامب) لبلاده ضمن دول محور الشر مع إيران والعراق. ويؤمن بأن بقاء نظامه ودولته يجب أن يرتكز على وجود قوة ردعٍ لا تسمح لأحد بالتفكير في أي أعمال عسكرية ضدها، حاليا أو مستقبلا.
ويتذكّر الزعيم الكوري الشمالي كذلك ما آل إليه نظام العقيد معمر القذافي الذي تخلى عن برامجه التسليحية الصاروخية والكيميائية. ويتذكّر أيضا مصير نظام صدام حسين الذي انصاع للقرارات الدولية الخاصة بمنع الانتشار النووي والكيميائي.
والأهم أن زعيم كوريا الشمالية يرى ما قام به الرئيس ترامب تجاه إيران التي وقّعت اتفاقا نوويا أجمع عليه أعضاء مجلس الأمن الدولي قبل أن تنسحب منه واشنطن قبل أسابيع، وتعيد فرض عقوبات صارمة على إيران. وهو ما قدم له رسالة شديدة الأهمية، بخصوص عدم الثقة في منظومة الحكم الأميركية، وما قد يخرج عنها حاليا ومستقبلا.
من هنا يدرك زعيم كوريا الشمالية ضرورة امتلاك قوة ردع حقيقية، خصوصا مع ما ذكره ترامب أن بلاده تستطيع أن تبيد كوريا الشمالية وشعبها. وامتلاك بيونغ يانغ رادعا عسكريا يمكن معه استيعاب ضربة أميركية أولى، والرد بقتل ملايين الأشخاص في كوريا الجنوبية (العاصمة سول فيها 10 ملايين شخص ولا تبعد إلا 60 كيلومترا عن الحدود) واليابان، هو ما لن يتنازل عنه نظام كوريا الشمالية، خصوصا مع وجود رئيس متهور في البيت الأبيض، يجهل تاريخ الأزمة الكورية.