بهدوء كبير، وقدرة على التحمل تبدو هائلة، يمضي رئيس الحكومة التونسية، يوسف الشاهد، مسالكه الوعرة، لضمان بقائه في السلطة. انحنى حتى مرت العاصفة أو كادت، خصوصا وقد كرّر الاتحاد العام التونسي للشغل مرارا في تصريحاتٍ لقياداته في الأسابيع الماضية أن مغادرة الشاهد رئاسة الحكومة هي “مسألة حياة أو موت”.
يبدو أن يوسف الشاهد، القادم من السياسة هاويا، يتعلم بسرعة. لا يحسن الكلام، وليس لديه موهبة الخطابة أو فن التواصل، ولكن “له القدرة على الصبر”، وهذه خصلةٌ نادرة في مناخ تونسي تمطر فيه الشتائم، وتلقي بحممها يوميا على متقلدي المناصب والمسؤوليات الحكومية في بلدٍ تتسع فيه فضاءات حرية التعبير إلى حد الفوضى وإباحة حرمات الناس.
في المرّات النادرة التي ظهر فيها مخاطبا التونسيين، أو أعضاء مجلس النواب، كان كأحد تلاميذ الصف الابتدائي، وهم يقدمون محفوظاتهم وأناشيدهم المدرسية بكثير من فنون التعبير الجسماني. يلقي النص، ويرفقه بحركاتٍ كثيرة، حتى يبدو موحيا متوجها إلى من يُنصت إليه، ولكن الرجل أبان في ذلك كله قدرةً على تلقي ردود الأفعال، حتى أكثرها صلافةً وغلظةً وبذاءةً من خصومه ب “ابتسامته الصفراء المحيّرة”.
“يبدو أن الاتحاد العام التونسي للشغل أيقن أن إسقاط الحكومة أمر ليس هيّنا.”
يقدّم يوسف الشاهد مثالا على جيل جديد يدخل الساحة السياسية في تونس من أبوابٍ غير أبواب النضال ضد الدكتاتورية زمن زين العابدين بن علي.
وربما كان ذلك سببا في معاداة بعضهم له، وقد تكون قرابته العائلية من رئيس الجمهورية، الباجي السبسي، ولو عن بعد، وانحداره من البورجوازية الحضرية (ضاحية المرسى تحديدا)، علاوة على قربه من أوساط خارجية بعينها، قد تكون جزءا من التحفظات المسبقة عنه.
ومع ذلك، يمضي الرجل معوّلا على إنجازاته الاقتصادية التي يراهن عليها، والتي لم يقنع بها خصومه، بل ربما كان ذلك مأخذا إضافيا في ظل ارتفاع جنوني للأسعار، وتدهور قيمة الدينار وارتفاع معدلات البطالة. وتلك وعوده التي قطعها على نفسه أمام البرلمان، حين تولى خلافة سلفه رئيس الحكومة السابق، الحبيب الصيد، الذي أقيل في ظروفٍ مشابهة.
بعد أكثر من ثلاثة أشهر تقريبا من التجاذبات السياسية التي فشلت في احتوائها محادثات وثيقة قرطاج 2، يبدو أن رئيس الحكومة قد أفلح إلى حد كبير في إزالة أهم الاعتراضات التي كانت تصر على إزاحته بقطع النظر عن الأشكال والتداعيات، ولعل أهمها الصادرة عن صديقه اللدود، نجل رئيس الجمهورية والمدير التنفيذي لحزب نداء تونس، حافظ قائد السبسي، الذي قاد حملة مناهضة له، حتى كادت تعصف به.
ولكن في خطوة مفاجئة وجريئة، وفي غياب رئيس الجمهورية الذي كان في زيارة إلى فرنسا، توجه رئيس الحكومة إلى الرأي العام التونسي، ببيان تلفزي، خصصه للهجوم على خصمه هذا، وحمّله مسؤولية تخريب الحزب والبلاد معا.
وما أن انتصر على خصمه أو كاد بالنقاط، حتى انتبه إلى هجومٍ كاسحٍ يقوده حليف الأمس، أي المنظمة النقابية الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي شاءت التجاذبات السياسية أن تضعه، هذه المرة، حليفا لابن الرئيس حافظ قائد السبسي الذي لا يحظى بقبول كبير لدى الرأي العام الذي لم يتعاف بعد من وباء الوراثة السياسية وآفتها على السياسة والمجتمع عامة.
يتدرّب يوسف الشاهد، بكثيرٍ من المشقة، على كسح الألغام، ويبدو أن الاتحاد العام التونسي للشغل أيقن أن إسقاط الحكومة أمر ليس هيّنا، أو هو على الأقل أكثر تعقيدا مما كان يتصور، وأن شيطنة الحكومة، ورئيسها تحديدا، باتهامه بكل سيئات ما يقع حاليا في تونس، أمر لم يعد مقنعا كثيرا.
واندفاع الاتحاد، وتورطه في محاولات إسقاط الحكومة بشكل مباشر، وانخراطه الكلي في معارك سياسية مباشرة، تنحرف به عن رسالته النقابية وتقاليد انخراطه في الشأن الوطني، واعتبار ذلك مسألة حياة أو موت، في خفةٍ اتصاليةٍ غير موزونة، انتهت إلى تصعيد بعض الخلافات الداخلية بين أعضاء قيادة الاتحاد نفسه، فضلا عن ردود الأفعال المتباينة داخل القواعد النقابية التي عبرت عنها في أكثر من مقام، أدت، في النهاية، إلى إحساس بعض قياداته أن نتائج المعركة المفتوحة مع الشاهد غير محسومة، وهي على الأقل ذات كلفة باهظة على الاتحاد ذاته، خصوصا مع ارتفاع وتيرة الضيق بتدخل الاتحاد السافر في مسائل سياسية محضة، هي من مشمولات الأحزاب تحديدا، خصوصا في ظل مرحلة بناء الديموقراطية التي تفترض أن تكون فيها السياسة مسألة أحزاب الحكم والمعارضة معا، فضلا على مجلس النواب الذي يفترض أن يكون المؤسسة الدستورية المرجعية التي تحدّد مصير رؤساء الحكومات.
“يقدّم يوسف الشاهد مثالا على جيل جديد يدخل الساحة السياسية في تونس من أبوابٍ غير أبواب النضال ضد الدكتاتورية.”
يخطف الاتحاد العام التونسي للشغل هذه الوظيفة، مستندا إلى سابقة الحوار الوطني التي توجته بجائزة نوبل للسلام، ناسيا أن السياق تغير، فلتونس اليوم دستور، ينظم انتقال السلطة والتصرف في أزمات الحكم. ولها انتخابات أفرزت من يحكم، بقطع النظر عن طبيعة التحالفات اللاحقة بين شركي الحكم.
وربما يكون الخطأ الثاني الذي أساء تقديره أن خوض معركة إسقاط الحكومة، وتحديدا رئيسها، يوسف الشاهد، عدّ انحيازا لأحد الأطراف على حساب الآخر، في معركة لا تعني التونسيين، فضلا على أنه انتصار لنجل الرئيس، حافظ السبسي، والذي تدور حوله شبهات. يعلم الاتحاد أن التطورات في حزب الشاهد لا تصب في صالح السبسي الابن، خصوصا وأن الكتلة البرلمانية انحازت إلى الشاهد، منفضة عن ابن الرئيس.
يحتاج الاتحاد العام للشغل، وقد انهمك في مشاوراتٍ محمومة مع أطراف سياسية معارضة لرئيس الحكومة، من أجل إسقاطها، إلى تلبية انتظارات منتسبيه من العمال، خصوصا وأن الأسعار تشهد ارتفاعا مجنونا، فضلا عن جملة من الإصلاحات الأخرى، تتعلق بنظام الحماية الاجتماعية، في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية، وهي نقطة الضعف التي يعرفها جيدا يوسف الشاهد، فالتوقيت الذي اختاره الاتحاد لخوض المعركة لم يكن موفقا.
لذلك سارع إلى دعوة الاتحاد إلى استئناف الحوار الاجتماعي المعني أساسا بالزيادة في الأجور، لعله يكون مدخلا لاستئناف الحوار السياسي لاحقا، وذلك ما نجح فيه إلى حد ما. لقد سارع الأمين العام للاتحاد، نور الدين الطبوبي، صحبة وفده إلى الاجتماع برئيس الحكومة، وصرّح، إثر اللقاء، إن الاجتماع كان مثمرا. الثابت أن ثمار ذلك اللقاء سيجنيها الطرفان، ولكن بأقساط متفاوتة ومذاقات مختلفة.