أعجب فيها خودا عربية سمراء، عيناها غسق أسود تمور في دجنته الأحلام وتتيه في سره الأفكار.. غسق يتعذب ليلد النجمات. وشعر كثيف حالك تسدله ستارا على مسرح الساعات.
لهجة صارمة قافيتها تحترم علامات الإعراب وأبياتها فاضحة للحزن، للحب، للطفولة الخرساء.
مشيتها توثق وقع خطوات أصيلة على درب التاريخية، نظرتها أفقية صامدة تخترق بها فضاء اللانهاية، وضحكتها شجى عذب عزف على أوتار الحس الفضية ليكون موسيقى الحياة الأبدية.
أعجب في جمالها الساحر، لا.. لهي حاضرة في ذاتي وهي النفس من شتاتي..
أعجب في جمالك الساحر.. أيا حورية نزلت من جنان الرحمان… أيا عاصمة قلب الإله… أيا محج النفوس الأبرياء… أيا قبلة الأرواح المتمردات..
لأنت الطاهرة تلبسك المغفرة كما تلبس حروف القرآن. أتوجه إليك في الهزيع الأول من الليل بدعائي.. أنشد منك السلام في منامي.. أحمل إليك في النسيم رسائل كياني.. أرى وجهك في الشمس يحمل الطمأنينة في أمالي.. أنت إسلامي وموطن الإسلام.. أسمع عن أنينك آذان الزمان وأجد في خشوعك صلاة الأنبياء..
أختم شهادتي باسمك، فأذكر الإله الواحد وأكمل عبادتي بذكرك فيهديني رب السماوات.. سويداؤك مسجد الإيمان الأقصى فيه ركوع أسس الإسلام وفيه سجود أمم الإعراب وفيه التسليم على أرواح الشهداء…
ويأخذني الحديث إلى ذلك الفارس الهمام.. عاشقك المغوار.. دفن بين أذيال أثوابك وبين ورود أكاليلك فداء العشق والمعشوق.. وأد حياته فتية فكانت الغيرة من العدو عليك شقية حتى أنهى صلاح الدين في رمس منك وهو يرى أنه يعود إليك.
كثيرون متيّموك ولكني لست العاشق المعمود لأنك لست صديقتي وحبيبتي، بل أنت أمي ووالدتي.. لا بل نصفي الكامل وديني الحر..
ولكن أيا ملاكي آمنت بك وبالله الواحد ورسوله فلماذا أهملتني؟ أيا جميلتي ما أصاب عينيك يغفو فيها المساء؟
ما بكِ تحدين بنظرك عنا.. أسمع صداك في الجو يردد “حزينة أنا ليس لأني أخشى الذئاب ولكني سئمت هذا العذاب.. حزينة على أمة تناست أن الموت واحد وإن تعددت الأسباب..حزينة على أمة نست أن للكون خالق المعجزات”..
يؤلمني حزنك ويبكيني إذا ما منك فاضت القطرات.. امتص منك العدو رحيقك فغابت عنك الفراشات.. حجب عنك الجوناء فتساقطت الورقات.. عصف بالريح شرا فتطايرت الأمنيات.. وأمر بالطير صه فانعدمت النغمات..
أرفع رأسي في الأفق فيغمرني الضباب وتنعدم الأبواب.. “أيا حبيبتي” أصيح “أين أنت؟”..
وفجأة تهيلني الدماء وكئيبة تشجيني السماء… “أبعد الغيبة إياب؟” أسأل: “وهل يخف يوما المصاب؟”..
أنحب: هيا أنت ما يكِ تبتعدين؟.. ألمح الخيال يتناءى وأرى الشقاء أسرابا.. أخذتني يعيدا فتبصرت الدنيا خرابا.. عشيقتي قادتني ولكن أين؟ تناسيت أنا والدمع الكذاب والفرح الهماس وتأملت محيط حورية الإيمان..
حياة تسترق الخطوات بين الأطلال وموت يحوم في الفضاء بأجنحته السوداء. نور يصارع دجنة الليالي وكره يهدم صرح الأماني.. طغاة أوقدوا جهنم بطشهم بأجساد الأطفال كأنما هم حطب يباع بأبخس الأثمان.. أمهات يزففن الرضّع للواحد الوهاب وفي كل مكان تدفن الأبدان بين حبيبات التراب..
أتناسوا أن المقبرة تختفي بعيدا عن منازل السكان أم أن اسم حبيبتي صار مجمع الأجداث؟ هياكل أمام البطش تحني الهامات، والمرقى صار دنيء السّمعات وأزحت بصري عن القبة الصفراء.. حز في نفسي أن أرى وحش الحقد ينهش منها الانتصارات.. وأغلقت عيني خوفا من الظلم أن يعميني فسمعت نأمة المسكين يشكي الهوان كثيرا..
وتناهى إلي صراخ المغتال على حوافّ الطّريق، والصغير يبكي عمرا لم يشهد منه الجميل.. والمرأة ترثي حبيبا لم يمسك يدها بعد حنين..
واختلطت أصوات المسلمين فأغلقت أذني خشية أن أسأم حال المعذبين.. ولكن عشيقتي ابتسمت ورددت: “لا تيأس.. لا تخف.. فهويّتي عربيّة ورسالتي إسلامية ونضالي كان ومازال رمز الإنسانية”..
أعجبني حديثها ففتحت الحواس والنفس وتأمّلنا فإذ بها رؤوس أياد تنبثق من وراء الخراب وأطفال نساء تطل من تحت العذاب.. وجنود الخفاء تبرز من بين السحاب وأرض تنبت ويلات الانتقام.. أرى أسياد الإجرام قبورهم في صدور الشباب والثورة في شرايين الطلاب..
خسئتم أيا من اختزلتم أهل حبيبتي في ضحايا الجريمة..
كذبتم أيا من ظننتموهم بقايا المصيبة.. فاسم عشيقتي أمة تفدي الأرض بالرقاب وأهلها شعب تمرّد على أصول الانهزام..
عرفت أن اسم حبيبتي القدس وأن أهلها لقبوا بمحاربي الفناء..
يتيمة يا قدس أنت تغرقين في بحر الدماء.. قصية عن مرفئ الهناء والعرب يرقبونك تتخبطين عشواء ولكن لا.. أولئك ليسوا بعرب فقد سقط عن الأمة النقاب، ألا تبت أيديهم وهم يتأملون الحصار ويصفقون مدعيين الوفاء.. يحاربون العدو بسيوف الكلام ويهرعون للأوكار إذا ما هزمت الأقوال ولكن أين نقاط الأفعال؟
يصنعون المسيرات ومنها الشغب ينادي ويسألون “قدسنا هلاّ صبرت.. فالفرج يأتي بعد الرجاء..”
يشنعون الظّالم ثم يختبئون في ظلامه ويشهرون الكاسر ثم يختفون بين أثلامه.. أيا قدس أنحن أهل أم وهم؟.. أما تعاهدنا يوما بيمين الإسلام أن نشهد أن السلام في الإيمان؟ ولكن خسنا بالعهد وأبينا عنك الكمال وأفصحنا أنه للواحد الإله وقلنا “لا يتم بدونه أمر وإليه المصير.. ذاك قضاك يا عاصمة الإسلام.”
ولكن أتحكم ملائكة المسجد الأقصى بالإعدام؟ لا وألف لا فإما حياة و إما فلا…
ناضلي يا قدس من أجل الموج الأسمر وأقطفي طيب الزيتون الأخضر.. إن أحزنوك فأعزفي أناشيد البكاء وجودي شجيا وطربا ولكن لا تصمتي فلا يبتلع الصمت اسمك..
أرميهم، أقتليهم أو على الطريق ضعيهم، أشتميهم، أطرديهم أو بالحجارة أرجميهم.. فبإرادتك يغدو القدر مفنيهم وبوجودك يصبح الوعي منهيهم..
إلى ذلك الرحم اللعين أرجعيهم حيث كانوا أشرارا وكانوا في الجور أسيادا.. أرضك -أرض الموت لهم- تنتظرهم فأدفنيهم ومساكن أيتام شردوهم مهجورة فأحبسيهم، وسماء المغفرة تشرع لك الأبواب فخذيهم.
فلتعلو زغاريد الشهادة ولتشق فضاء الظلاّم ولتكتسح سحاب الحكام.. فليسمعوا رنين الدفوف كصوت الإله وليصغوا لصرخة الحرية على أوتار الرّباب. فإن مزقوا الرّداء فيك إلى الجحيم ولتأكله النيران..
دعي طهرك جليا دون أثواب يعميهم وليذهب كل الأبصار، كوني لهم شبح الموت في كل مكان وأعصفي بقلوبهم في كل زمان.. انتشري لهم كجيش الحياة وحاربي بسلطان الأحلام.. اسألي من الليل البدر وأفنيهم بضيائه واطلبي من النهار النور وعذبيهم بسنائه..
مزقوا الطفولة فيك فمن يرتق هذا الكساء إذا فتق؟ لا ترثيه ولا تضيعي الأيام في نحيبه، بل تبطني الرجولة ولتكن أشواكها أنيابا مزقي بها من ترك أشلاء.. لأنك رفضت أن تكوني عاصمة الضباب قد اتهمتي بالإرهاب فهذه ضريبة الجمال في بلاط الظلاّم ليس ذنبك بل ذنب حسنك الفتّان الذي اغتالته رغبة القوّاد، ذنب صوتك الرنّان الذي اغتصبته ذبذبات الحكّام..
فيا ليتك كنت وردة سوداء، فما لمحك العدو في ظلمة الحياة وما أبهرته ألوانك الفتية وما أعجبته استقامتك الأبية.
يا ليتك كنت ظلماء كقلبه فما انتبه لسناك الشقي وما هرول يقلب إحسانك الجلي، حتى أنه هم باقتلاع من موطنك الأصلي.. رفضتي معلقة حبك بالأرض.. هذه الضريبة.. ضريبة الحسن في عوالم الأحسن واللاإنسان..
كثيرا ما ظنوا أنك اسم مخطوط على ماء ويسألون هل يحفظ الماء شيئا من الأسماء؟ ولكن أتناسوا أنك عاصمة فلسطين، وأن قلوبنا عاصمة أحزانك نحن أنت وأنت موطن الإسلام، فلا تجزعوا نحن عاصمة فلسطين.