تحتَ ضوءِ القَمر المُنير، وبَريقِ النُّجومِ السَّاطعة في الأفُق، جَلستْ تُسامرُ الفَراغَ في سُكون، بينَما تَسيلُ عبِراتِها بدمعٍ هتونٍ..
أنيسُها الماضِي الجَميل، ومُكدِّرُ صفوِها الحاضر المَرير، بَينَما شُغلها الشَّاغِل ذاكَ المُستقبَلُ الغَيبِيّ.
أتَراها تَحِنُّ لماضيهَا، تَإِنُّ لِواقِعها، أم تُشفِقُ على ما هُو آتِيها.
فِي سالِفِ الأوقاتِ كانت تَحظى بالرَّخاءِ اللاَّمتناهي؛ تَتألَّقُ بِطلَّتِها البَهِيَّة، ومِشيتِها المُتبَختِرة، تحيطُ رقبتَها بِعقدِ الرَّتابَةِ والحُبور، تَضحكُ بِهمسٍ، وتغمِزُ لِلعابرِ بِلُطفٍ، فتَتَفتَّحُ مِن أجلِها الزُّهور، ويَحضُرُ في مَجلِسِها الرَّبيعُ مُتأنِّقاً في أبهى حُللِه..
إِن مَرَّ بِها البُؤسُ يَكونُ ضَيفاً لَطيفاً، وإن هَاجَمها العَجزُ يَكونُ طَفيفاً..
أمَّا البلاءُ فَلم يَكُن يَتجاوزُ ضِيافةَ الثَّلاثةِ أيَّام.. إِن زارَها الخَوفُ يكونُ مُندَثِراً، والكَربُ حَتماً مُهاجِراً.
خَريفُ فُصولِها لا يَتَجرَّأُ عَلى المَساسِ بِروحِها، أمَّا شِتاءها يَروِي صَحاريها فلاَ تَظمَأُ.
إِنْ لَوَّحتْ بِكَفِّها للغَابِرِ أَدبَرَ، ولِلعَابِرِ إِن الْتَفتَتْ أَقبَلَ. تَتَمنَّى لَو يَرجِعُ بِها الزَّمن القَهقرى، لِتُقَدِّسَ تَفاصيلَها، وتُثنِي على جمالِ لَحظاتِها النَّضِرة.
في اللّيالي الصَّيفِيَّة كانت تُجالِسُ الأموَاجَ في سُرور، بَينَما يَلفحُ وَجنتَيها رَذاذُ المِياهِ المُنعِشِ، تَقِفُ شامِخةً، وتسِيرُ واثِقة الخطى.
ما الّذي غَيَّرَ مَاضِيها لِيأبى ملازَمةَ حاضرها؟
أتَراهُ الزَّمنُ المَاكِر، أم هُو الجُحود بالنِّعمِ المُكابِر؟
أكانَ لِزاماً أن تُحرَمَ مِن ملذَّاتِ حَياتها لِتُدرِكَ قيمَتها؟ الآنَ وقد أصَابَها وَابِلُ العُسرِ، أدرَكت رَغَدَ عَيشِها، ووعَتْ يُسرَ حَالِها.
لَم تَحظَ بنُزهة الرَّبيع وسَط الحقول المُصفَرّة، الأشجَار المُخضَرَّة، الزُّهور المُتَفتِّحة بأنواعِها وقد فاحَ عِطرها الأخَّاذ، وثِمارها النَّاضجة الطّريّة.
الآنَ وقد وُضِعت في قَفصِ الحَجز، أحَسّت بمَشاعِر المسجونينَ المحرومينَ من شَمسِ الرّبيع، ومنظر تساقُط الأوراق في الخريف، والمشي تحتَ المطرِ في الشِّتاء.
اِنتبَهت لِضيقِ المِساحةِ مِن حولِها، بَعد أن كانت تتَفسَّح كما يَحلو لَها في أرجاءِ الكونِ السَّرمدِيّ، وبينَما كان الاِكتِئابُ لا يَعرِف إليها السّبيل، أصبَحت تشتَمُّ رائحةَ اقتِرابهِ مِنها، تَهرُبُ مِنه شِبراً، فيقتَربُ ذِراعاً، أمّا المَلل فما إن تَبتعِد عنه زَحفاً، حتّى يأتيها مَشياً.
تَتذَكّرُ حينَ كانت تُنفِقُ ببَذْخ وإسرَاف، فلاَ تَكتَرِثُ لِقضاءِ حاجةِ مُحتاجٍ، أو التَّصدّق على فقيرٍ مُتسَوّل، لَطالَما غرَّها ثراء الأملاك، ووفرة الأموال، فنسِيتْ الإنفاقَ، خشيةَ إملاق.
لم يَكن لِلرّضى مَكانٌ يأوي إليهِ في حيَاتها، فإِن آتاهَا خيرٌ ضَحِكت مِلءَ شَدْقيها، وإن حَضر شرٌّ تَبرَّمت مُكَشِّرةً عن سخَطها، لَم تُدرِك أنّهما وَجهانِ لِعملةِ الحيَاة؛ ونَسِيت أنَّها خرَجتْ مِن رَحِمِها ضَعيفَةً ذَليلةً لاَ حولَ لها ولا قُوّة.
حَسِبتْ أنَّ عودَها إنِ اشتَدَّ فلاَ مُكسِّرَ لهُ، والآنَ فَطِنت أنْ بَعضَ الظَّنِّ إثمٌ.
أتَراها ادَّكّرتْ عُرسَ الاِبتِكاراتِ الصَّاخِب، وعَقيقةَ الاِختِراعات الَّتي راحتْ ضَحِيّةَ وِلادَتِها الطَّبيعة الأمّ؟
هذه الأخيرةَ الّتي قضَتْ قُرونَ عِدّة في غُرفةِ الإهمال؛ مُستَلقِيةً على سرِير الخطر، تتَغذَّى على التَلَوُّثِ، وتَتنَفَّس مِن جهاز الدّمار، بينَما تُؤازِرُها الكوارِث في إصرار، شاءتِ الأقدار أن تَستَيقِظَ من غَيبوبَتِها الطَّويلة، مُوَدِّعةً مُؤازِريها في افتِخارٍ، مُستَنشِقةً هَواءَ الشِّفاء، ومُلَوِّحةً للخَطرِ في انتِصار.
عُقودٌ قضَتها في حُضنِ الهلاَك، تُقبِّلُ ثغرَ الخرابِ، والآنَ تَحرَّرتْ مِن عبوديَّة جلاَّديها، وتَسَلُّطِ مُخرِّبيها.
حَاضِرُ الأيَّامِ يَضُمُّها إلى قَلبِهِ كَمعصَرة الزَّيتون، ويَطحنُ ماضِيها ليَستَخرِجَ مِنه الدُّروس، ويُقَطِّرُ خِصالها فِي آنِية العِبرةِ والتَّعلُّم، بَينَما تَتَكدَّسُ بَقايا صِفاتِها في رُكنِ الإصلاَحِ.
بَعدَ هَذا الحِوارِ العَميقِ بَينَها وبينَ نَفسِها..
اِنتَصَبتْ واقِفَةً كَمن لَدَغَهُ ثُعبان، ونَفضتْ عَن روحِها الشَّتاتَ والهذَيان، ارتَدتْ ثَوبَ التَّعقلِ والإِحسان، ثُمَّ تَوجَّهت نَحو المُستَقبَلِ بِتُؤدَةٍ وحُسبان.
ومِن حاضِرِها الألِيم نَسجَتْ خيوطَ القَادِمِ الجَميل، حيثُ أطَلَّ الصَّبرُ حَامِلاً بُشرى الفرَج، وأَينَعت بذورُ التآزُرِ بثِمار تَخطِّي المِحنِ وتجاوُزِ الصِّعاب، سماءُ الرَّحمةِ أمطَرتْ غَيثَ الأمنِ والأمان، وسِهام الدَّعواتِ أصابتْ هَدفَ التَّحقُّقِ والاِستِجابةِ.
مُستَقبلٌ مُزهِرٌ تتخَلَّصُ فيهِ الأيّامُ مِن طُغيانِ البَشَرِيّةِ وحُلولِ السَّلام، تَتكَلّلُ فيهِ تجارِبُ إصلاحِ الذّات بالنّجاح، لِيرقَى الفِكر إلى مرَاتِبِ النُّضجِ والصَّلاح، وبَينما يشُدُّ الوباءَ رِحالَه من غيرِ رَجعة، ستَبتسِمُ الأرضُ بِشِفاءِ الطّبيعةِ، ونجاةِ الإنسَان، حِينَها سَتُوقِّعُ الإنسانيَّة مُعاهدةَ صُلحٍ مع البيئَةِ وبَني الإنسان.
بينَما التَّفاؤلُ عنوانُ حاضِرها، والأمل مِفتاح مُستَقبلِها، لَن يَبرَحَ الإيمان لِسانها، بِتِلاوةِ صَلاةِ اليَقينِ والتَّهجُّدِ.
سَيراً على نَهجِ عبارةِ “وَطالَما كانَ البُؤسُ هو المَهيَع المُفضي إلى الحِكمَةِ البَليغَة”، سَتَتورّدُ خدود المُستَقبلِ بالفِطنةِ، وتَتَزيَّنُ أيّامه بالوعيِ، ويَمشي على وِترِ الاِتِّزانِ بِاستِحياءٍ.
صورةٌ مُلهِمة رَسَمَتها لهُ بِإتقانٍ، حيثُ يَعزِفُ الحُبّ على آلةِ الكَمان، والعطفُ على أعوادِ النّاي، وتُغنِّي القَناعَة سِيمفونيَّةَ شُكرٍ وامتِنان، أَنْ ألهمَها الرِّضى طريقَ العِرفان، واستَجابَ الفؤادُ لِلتَّضحية في إذعَان.
صورةٌ تتعرَّى فيها الكَراهِيّةُ فَيستُرها الوِدُّ، وتُغسلُ قذارَة الظُّلمِ بمياهِ العَدالةِ والإِنصاف، وتَتظافرُ فِيها الجُهود لِعمومِ السِّلمِ والاِطمِئنان، تُرفرِفُ عصافيرُ التّآخي في كلِّ شبرٍ ومَكان، ويَبزغُ فجر عهدٍ جديدٍ يَدعو إلى التَّعاونِ والتّعاضدِ مِن أجلِ الخيرِ، في سبيلِ الخَير، لِيندَثِرَ الفسَاد في غَياهبِ النِّسيان، وتشِعُّ أنوار المُساواةِ في جُحور العُنصُريّة المُظلِمة.
اشتَدَّ حماسُ الأيّامِ، واعتَراها سرورٌ غابِرٌ افتَقدَته، لِتُكمِلَ حديثَها مع نَفسِها في نَشوةٍ وخُشوعٍ، إنَّ الحَاضِر راحِلٌ لا محالةَ، وكما أصبَحَ الماضي ماضٍ، حَتماً سيُصبِحُ الحاضِرُ ماضٍ أيضاً، وذاكَ المُستَقبلُ النَّيِّر سَيكونُ حاضراً واقِعاً، لَن يَظَلَّ تَخيُّلاً تُعانِقهُ الآمال، بَل سَيكونُ هدفاً قَريبَ المَنال.
إنَّ اشتِدادَ الكَرب يَدُلُّ على اقتِرابِ الرَّحيل، وزَوالِ الغمَّةِ، فالغَسقُ حِينَ تَشتَدُّ ظُلمَته نَعلَم يَقيناً أنَّ الفجرَ قريبٌ.
خَرِيفُ الوباءِ أسقَطَ أوراقَ التَّجبُّرِ والطُّغيان، وأمطَرتْ بَعدهُ السَّماءَ بوابلِ اللُّطفِ وكذَا الحِرمان؛ لِريِّ القُلوبِ بالرَّأفةِ والإحسَان، وبِهذا سَيَكبُرُ نباتُ الوِصال، وتُثمِرُ الخِصال، ويَتَقوّى رِباط الاِتِّصال.
وَثَبتِ الأيَّامُ في حُسنِ ظَنٍّ، وثُبوتُ عَزمٍ، لِلتَّخلَّصَ مِن قُيودِ الحاضِر في هِمَّةٍ، لِتجِدَ نَفسَها حُرَّةً دونَ أغلالٍ، اِنصَدمتْ بِدايَةً مِن غَرابَةِ المَوقِف، فاستَدارتْ حَولَها لِتَجِدَ غمامة الحاضِرِ انقَشَعتْ، وقُضبانهُ انْكسَرتْ، وأرضهُ تَبدَلَّتْ بُستانَ كَرمٍ، تَحُفُّه أشجار لُطفٍ، بينَما تَجري أَنهار التَّغييرِ لِتَصبَّ في مُحيطِ الفَلاحِ والنّجاح.
فَغرتْ فَمها حينَ رَأَت المُستَقبَلَ يُلوِّحُ لَها مِن قريبٍ، تُحيطُ بِهِ غِشاوة النُّورِ، ويَمشي على بِساطٍ مِن حُبور، انشَرحَت أساريرُها، واستَكانَ فُؤادها..
بَينما ألقتْ نَظرةً طويلَةً لِلسَّماء، كَشَفتْ عمّا يَعتَمِلُ صَدرَها من امتِنانٍ، وتَمتَمتْ شَفتَيها في حَمدٍ وشُكرٍ لِلخالِقِ أن رَزَقَها معَ النِّعمِ الكَثيرة، نِعمة تَجلِّي الشِّدّة، وانكِشافِ البُشرى، وحلولِ المُستَقبل المنشود.
4 تعليقات