ثقافةحواراتشخصيات مغربية

رواية سدوم – حوار خاص مع الكاتب المغربي عبد الحميد شوقي

رواية سدوم |حوار خاص مع الكاتب المغربي عبد الحميد شوقي | حاوره: سعيد المرابط


الشعر ليس هو الرواية، والتاريخ المغربي هو أقدم وأعرق من التاريخ الرسمي الذي نقرأه في المدارس، ونحن بكل بساطة نخاف من الحرية، ولا يمكن للروائي أن ينسلخ تماما عن ذاكرته وماضيه، وتسمية ’’الربيع العربي‘‘ هي تسمية في غير محلها.

عبد الحميد شوقي شاعر وكاتب مغربي، من مواليد ستينيات القرن الماضي، مجاز في الفلسفة من كلية الآداب بالرباط، وأستاذ ذات المادة بمسقط رأسه بـ’’تيفلت‘‘، المدينة الفتية بإقليم ’’الخميسات‘‘.

من الأعمال الأدبية التي أنتجها عبد الحميد شوقي .. ديوان شعر موسوم بعنوان ’’كنت أهيئ صمت الانتظار‘‘، وأربع روايات أخرى: ’’خراب الحلم‘‘، ’’الموت في رابينه‘‘، ’’الموتى لا يعودون من السماء‘‘، لم ينشر منها سوى رواية سدوم الصادرة عن دار الآداب، وقد تضمنت حبكتها هويات ضائعة لشلة لخصت المجتمع المغربي في أجسادها التي يتكوم كل منها على مأساة منفردة، وهي شخصيات تحمل الفن سلاح انعتاق؛ تجابه به آلة القيود الإجتماعية والتاريخية، وحتى الذاكرة التي تختزل مآسي تراجيدية.

وقد أثارت رواية سدوم نبع سوافي العديد من التابوهات في المجتمع المغربي، واستقبلت بردات فعل زئبقية متنافرة تتقافز في المجال المغربي الساخن، بين من اعتبرها عملا يتشظى بين التشكيل الكتابي الشاعري والنضالية الفكرية المندفعة، وبين من يراها نصا يتقمص مرآة تعري حقيقة الإنسان المغربي، وتضعه أمام نفسه بعلاتها التاريخية، الجسدية، الهوياتية والدينية، وبين من اعتبرها ’’قلة أدب‘‘ تتلفع دفتي رواية أدبية.

تبقى رواية سدوم رغم اختلاف القراءات؛ نصا تغوص أبجدياته في عمق المدلول الإنساني، ويتسلل نحوه رغم أسيجه عيون العسس وحراس النوايا، ليفتق التمزقات ويرتقها بخيط الحكاية، وينظم الإختالات التي يحمل الإنسان في قراراته السحيقة بحبكة حكي فلسفية لا تشبه إلا نفسها.

أستاذ عبد الحميد شوقي يسعدني الترحيب بك وشكرك لقبولك دعوة MTAYouth، لهذه المقابلة، التي نرجوا أن تفتح نافذة للقراء المغاربيين على شخصكم وعلى رواية سدوم ، ما بين عالم الرواية وخياله وما بين أرض الواقع.

– بعيدا عن الأديب والشاعر، أو بينهما، من هو عبد الحميد شوقي الإنسان؟..

عبد الحميد شوقي، شخص ينتمي إلى بلدة صغيرة على هامش التاريخ والذاكرة الجمعية اسمها ’’تيفلت‘‘. فتحت عيني على شغف، ربما حدث صدفة؛ هو شغف الكتابة التي حولتني في نظر نفسي، من مجرد كائن وجودي إلى طائر يسير غريزيا وفق منطق السفر الدائم بحثا عن طقس يتجدد دوما في عوده الأبدية.

– يسأل الكثير عن سر عدم نشرك لثلاث روايات، فلماذا لم تصل أعمالك الروائية الأخرى إلى القراء، وظلت حبيسة مسودتك؟..

قبل رواية سدوم بسنتين كتبت رواية ’’الموتى لا يعودون في المساء‘‘ التي غيرت عنوانها الآن، وكانت بمثابة الحركة المتطفلة التي جعلت البطل في الأساطير القديمة يتجرأ على فتح قمقم علق بصنارته، فخرج منه مارد عملاق. هي دائما تلك الصدف الوجودية المنفلتة التي تمثل الدفعة الأولى لحركة الكون.

بعدها كتبت رواية سدوم بشغف كبير ولكن باحترافية صوفية، وأحسست أنه لا يمكنني أن أقدم نفسي للعالم إلا قويا لأحتل مساحة الغزو الإبداعي في جغرافيا التلقي، ولذلك آثرت أن أرسل رواية سدوم إلى دار الآداب التي لم تتردد في نشرها، وتركت الرواية الأولى لفرصة أخرى بعد أن أثبت نفسي. بعد رواية سدوم كتبت ثلاث روايات، إحداها في طريقها للنشر، والأخريان تنتظران فرصتهما.

– عندما يقتحم القارئ نص الرواية، توقفه عبارة ’’سَدوُم‘‘، تتجاذبه دلالات المفردة، الأول يعرج به نحو ’’مدينة سَدُوم‘‘ التي جاءت في نصوص التوراة، والثاني ذلك المعنى المعجمي الذي يحمل معاني ’’الألم‘‘، فهل كنت باختيارك لها تمغنط التاريخ في اللغة، لتقول أن حرية ’’سَدوُم‘‘ العبرية في المغرب مؤلمة؟، أم ماذا؟.

في الحقيقة كل رواية تبدأ بلقطة بصرية، أو فكرة مباغتة أو بدهشة ما. اللقطة البصرية التي أشعلت الشرارة لكتابة رواية سدوم هي مشاهدتي لفيلم سينمائي عن علاقة الشاعرين الفرنسيين ’’فيرلن‘‘ و’’رامبو‘‘.

حيث أنه في القرن التاسع عشر، كانوا يستعملون عبارة ’’السَدُومِية‘‘ لللإشارة إلى كل علاقة شاذة أو سلوك رذيل، وهو ما كانت عليه علاقة الشاعرين، وبقدر ما أثارتني العبارة بقدر ما وضعتني أمام إحراج حقيقي: لو لم يرتبط ’’رامبو‘‘ و’’فيرلن‘‘ بعلاقة ’’سَدُومِيةٍ‘‘، هل كان الإبداع العالمي سيحظى بهذا الدفق الشعري الذي عبرا عنه؟

بطريقة أخرى، كان من الممكن أن تكون علاقتهما ’’سوية‘‘ و’’عادية‘‘ وفق ما تفترضه التقاليد والأخلاق الراقية، ولكن ماذا كنا سنربح فكريا وإبداعيا وجماليا من هذه الأخلاق النبيلة؟، لذلك تحاول رواية سدوم أن تعيد الإعتبار للحرية الخلاقة التي لا يمكن أن تكون إلا حرية الجسد في النهاية، لكي نرى الكائن الإنساني في عنفوانه الشهواني واندفاعه الغريزي وعريه اللذَّوَيِ، وهو يغوص في أعمق نقطة في جسده الذي يحمل أوشام الماضي والوقائع المحرمة والذكريات الأليمة، لكي يمكنه أن يصل إلى سلام مع الآخر، لا مع الذات، لأنه، كما يقوق ’’ديريدا‘‘: ’’مع الذات لا نكون أبدا في سلام‘‘.

وسدوم بهذى المعنى هي إعتراف بباندورا الجسد كمأوى الأعطاب والتراجيديات، ولكن مأوى كذلك للفرح واللذَّة. ولهذا سيقول أحد الأبطال: ’’أيها العالَم، نحن الذين ندمن النهار كأبدية لا ترحل، اترك لأجسادنا أن تعيد حكاية ’’سَدوُم‘‘ التي لم يدمرها فسادها، بقدر ما دمرها عدمُ قدرتها على رفع شهواتها إلى مقام القوانين التي لا ترتفع..‘‘.

كذلك كان في اسم ’’سَدوُم‘‘ تحايل على المتلقي، وكأنني أغريته بحكاية ’’توراتية‘‘ مترسخة في اللاوعي الديني لكي أطيح بأفق انتظاره ورؤيته الأخلاقية.

– الشاعر فيك كان حاضرا في الرواية، تارة بوضوح القصيدة، وتارة بقصائد تتشح نثرا أغنت النص، فأيهما غلب الآخر في صراع الكاتب والشاعر داخلك، وأنت تكتب الرواية؟.

سأوضح هنا أمرا طرح علي كثيرا، ويتعلق بعلاقة الشعر بالسرد. أنا بالأصل شاعر، ومازلت شاعراً. هكذا أتماهى مع ذاتي.

لكنني بعد سنتين فقط من بداية تجربتي الشعرية، وأنا في الخامسة عشرة من عمري، كتبت أول رواية ولم أكن أتجاوز السابعة عشرة، بمعنى أنني لم آت إلى الرواية متأخرا بعد أن ضاقت بي ضفاف الشعر.

ولكن، الشعر ليس هو الرواية؛ رغم أن السرد الذي لا يقوم على دفق شعري، لا يقدم رواية عميقة ومأساوية، لأن الشعر بالتعريف هو التقاء الوجدان الإنساني بأسرار الطبيعة وغموض العالم، والخوف من حتمية الموت، حيث تحول هذا اللقاء إلى تعبير مأساوي لم يعبر عنه سوى الإيقاع الشعري الذي هو إنعكاس لإيقاع الأعماق وهي تصطدم بغلاف القدر.

الشعر هنا تجربة وجودية لا يمكن توصيفها وفق آليات تقنية ونقدية، لكونه زفرة أو دفقة أو زخم منفلت، له مساحته الضيقة في الزمان والعبارة والتلقي، وهو أشبه بشريط دعاية ليس أمامه سوى حيز زماني يحسب بالثواني، وشعار لغوي جد مختصر ونافذ لكي يغزو عقل المستهلك لترويج البضاعة.

في حين أن الرواية تشبه شريطا مطولاً يمتلك كل الإمكانات الواسعة لإيصال فكرته، كتعابير وجوه الممثلين ولباسهم، والتعامل من الزمان وفق إيقاعات خارجة عن الزمان العادي، مثل تقنية ’’الفلاش باك‘‘ ومثل الخلفيات التي تؤثث المشهد والموسيقى المصاحبة له.

لهذا لا يمكن أن أدعي أنني كتبت الرواية عندما وجدت الشعر عاجزا عن إيصال فكري ورؤاي بكل عمق، لأننا أمام سياقين مختلفين تماما؛ فأنت لا يمكنك أن تعتبر أن عداء المسافات القصيرة هو عداء في المسافات المتوسطة أو الطويلة هو عداء فاشل، والعكس صحيح، لأن كل اختصاص له إمكاناته البدنية الخاصة بكل عدّاء على حدة.

صحيح أنني أثناء الكتابة لا يمكنني الفصل النهائي بين الشاعر والسارد، لكن الوعي الذي يرافق عملية الكتابة؛ دائما يجعلني أنتبه إلى أنني الآن بصدد كتابة رواية بكل ما يستلزمه ذلك من استعداد ذهني ونظري وتقني، وأن الشِّعري يكون بمثابة دفق لغوي ينقد السرد من كل جفاف.

– يرى الكثير أن الرواية باتت ’’ديوان العرب‘‘ بدل القصيدة، أو بأن هذا زمن الرواية وليس زمن الشعر عند العرب، ماذا ترى أنت من موقعك كشاعر وروائي معا؟.

بحكم الواقع لا يمكن أن ننكر أن الرواية حققت انتشاراً هائلاً على حساب الشعر، وهذا شيء يمكن ملاحظته في كل المعارض الدولية، حيث يكون الإقبال على إقتناء الروايات أكثر من المجموعات الشعرية، كما أن الجوائز الكبيرة المخصصة للرواية أكثر من الشعر.

والرواية بهذا المعنى ليست ’’ديوان العرب‘‘ فقط، بل هي ملحمة العصور الحديثة. وأضف إلى ذلك أن التلقي الشعري العربي طرأ عليه نوع من الإرتباك منذ أربعينات القرن الماضي، بظهور ما عُرف آنذاك بالشعر الحر، حيث ’’ضاعت‘‘ الذائقة الشعرية التي كانت متعودة على نمط القصيدة العربية الجاهلية، مثلما كانت متعودة على كرونولوجيا ’’أزلية‘‘ تبدأ من الجاهليين إلى الأمويين فالعباسيين فالأندلسيين فعصور الإنحطاط، وصولا إلى مدرسة البعث الحديثة. الآن هذا ’’الفكر‘‘ الشعري تمت خلخلته تماما، ووجدت الأذن الشعرية نفسها خارج المألوف الأزلي، خصوصا مع ظهور تجارب شعرية جديدة كقصيدة النثر. هذه الخلخلة التاريخية لم تعرفها الرواية العربية لأنها لا تنهض على مألوف أزلي وكرونولوجيا نمطية.

فالرواية العربية لم تبدأ إلا منذ زمن قصير جدا، وهي لا تمتح عوالمها من الموروث، بل من المَتْنِ العالميِّ الذي لم يكن بمقدور الشعر أن يحققه، لأنه ظل سجين النمطية الجاهلية، التي أرسى قوانينها ’’الخليل بن أحمد الفراهيدي‘‘، وتم التعامل معها كما لو كانت قوانين طبيعية لا ترتفع. ومع ذلك يمكن القول إن الشعر العربي ما يزال يحظى بمكانته الراقية لدى المتلقي العربي، ويكفي أن نشير هنا إلى المكانة التي يحتلها شاعر شاهق مثل ’’محمود درويش‘‘، فهي مكانة لم يصلها أي روائي عربي إلى الآن.

– الفرنسية كانت حاضرة في نص رواية سدوم بشكل ملفت للنظر، هل كان عبد الحميد يطرح إشكالية ’’الإزدواجية اللغوية‘‘ في الإنسان المغربي، أم أنه هناك في مطبخ كتابتك كان شيء آخر أبعد من هذا التأويل؟.

طرح علي هذا السؤال بكثيرٍ من الاستغراب، إلى درجة أن ’’دار الآداب‘‘ لم تقدم رواية سدوم لـ ’’جائزة البوكر‘‘ بدعوى حضور الفرنسية فيها.

لكن، لنتأمل المسألة من زاوية موضوعية؛ أنا روائي أشتغل على متن يمتح من واقع موضوعي، وليس من مجرد واقع شعوري أو خيالي. والواقع المغربي لا يعرف الإزدواجية اللغوية بل يعرف تعدداً لغوياً، وهذا أمر لا يحتمل أي حكم قيمة، إنه حكمُ واقعٍ قائم، وليس في ذلك ما يعيبه، شريطة أن يتم التعامل معه بفكر ديموقراطي ورؤية متسامحة. فبلدان مثل ’’سويسرا أو بلجيكا أو كندا‘‘ هي بلدان قائمة على الإعتراف بالتعددية اللغوية الموجودة في الواقع والمقررة دستوريا، وفي ذلك غناً للثقافة والفكر.

عندما نعود إلى رواية سدوم نجد تعدداً لغوياً يعكسُ واقعاً ليس من إبتكاري، حيث نجد المغربية، العربية، الأمازيغية والفرنسية.

العربية الفصحى تخترق حوارات الشلة السَدُومية وهي تناقش قضايا فكرية أو إبداعية أو فلسفية.

والمغربية هي لغة الإنسان العادي الشعبي؛ الذي وصفته من خلال مشاهد ’’ساحة الخروب‘‘، مثلا عند إقبال الجاماهير على مشاهدة سينما الحائط.

الفرنسية هي لغة ’’كاميليا‘‘ سليلة البورجوازية ’’الرباطية‘‘ والمنتمية إلى مدرسة ’’البعثة الفرنسية‘‘ التي تعيش ’’الفكر الفرنسي‘‘ داخل الجغرافيا المغربية، وهي لغة ’’جيل وإيميلدا‘‘ نورماند الفنرسيين اللذين احتضنا ’’النوري‘‘ عندما كان طالبا في المعهد السينمائي بباريس.

والأمازيغية هي لغة أهل المتاجر البسيطة من ’’سوس‘‘؛ الذين كانوا يفرغون أحمالهم الجنسية في بيت ’’زينة‘‘ أم ’’ميلاد‘‘.

إذن فالتعدد اللغوي ليس ترفا أو دلعا روائيا من أجل إظهار مقدرة لغوية ما، بقدر ما هو إحترام لخصوصية الواقع الذي تنهض عليه الرواية، وإلا فيجب إعدام كل هذا الغنى اللغوي والثقافي لصالح رؤية ’’فقهية‘‘ لا تعترف إلا بلغة المقدس وثقافة الشرع.

– اسمح لي أن أطرح عليك سؤالا طرحته أنت بلسان إحدى شخصيات الرواية، لكن بطريقة مختلفة، هل سر الجمال في الأعمال الإبداعية الذي يحقق لها الخلود فعلا هو التحرر، أم كانت تلك عبارة أدبية حرة، نكاية في حراس النوايا من كهنة اليوم، وسجاني الخيال الإبداعي في سياج الظلام والتكفير؟.

لو فتحت الرواية فستجد قولة ’’لباسكال‘‘ تم تحويرها. إذ يقول:

 le cœur a ses raisons que la

 Raison ignore.

وهي قولة ذات دلالة روحية إيمانية، وقد لعبت على نوع من ’’الجناس الناقص‘‘ بتحوير كلمة cœur  لتصبح corps  أي:  le corps a ses raisons que la Raisons ignore.

وبذلك ننتقل من فلسفة الروح والإيمان، إلى نوع من الفلسفة ’’الأبيقورية والنتشوية‘‘ التي تعترف بسلطة الجسد وأوليته، واندفاع شهواته في تكوين الشخصية ورسم العلاقات بين الناس.

يقوم الإعتراف بالجسد على ثيمة الحرية كمعطى ’’أنطولوجي‘‘، فدون حرية، لا نكون سوى أمام روحٍ بئيسةٍ تحاول أن تجعل الجسد على صورتها، فتنظر إلى شهواته واندفاعاته بنوع من الإدانة المبنية على حكمي الخطيئة والكبيرة والرذيلة الشيطانية. لكن ماذا ننتج في النهاية؟؛ إننا لا ننتج سوى شخصية ما تنفك هاربة من جسدها، وتنتظر أية فرصة للخلاص منه، إما عن طريق الزهد والعزلة أو الاستشهاد.

عندما كتبت، كنت أمام رهان أليم: إلى أي حد سأكون متحررا كما تفترض رؤيتي للعالم، وأنا أكتب وأسرد، قبل أن أطالب الآخرين بالتحرر؟، والحرية لا تعني سوى الإنفتاح على الظلام الشاسع والمرعب الذي يسكن دواخلنا كمحيط متجمد من تاريخٍ طويلٍ من الخوف والقمع والوصايا الشرعية. دون ذلك، لا يمكن أن ننتج إلا أدبا جميلا ومتخلقا ومهادنا، والأَوْلى أن نسميه وعظا وإرشادا وتعاليم ’’بيداغوجية‘‘، لأن الذات التي ينهض عليها منسحقة وممحوة تماما لصالح ’’النحن‘‘ الشرعية.

– النزعة الأمازيغية كانت حاضرة بشدة في النص، ولأن النص عجينة من ماء الخيال ودقيق الواقع، سنتركه جانبا، وأسأل عبد الحميد شوقي الإنسان، ما موقفك من ’’القضية الأمازيغية‘‘، وماهي قراءتك الآن للتاريخ ’’العربي‘‘ في منطقة الشمال الإفريقي؟.

في الحقيقة أنا أنتمي إلى منطقة هي بالأساس أمازيغية؛ وهي منطقة ’’زمور‘‘، رغم أن أبي وأمي ينتميان معا إلى قبيلتين مُعَرَبَتَيْنِ. نشأت على نوع من التماس والتداخل بين المكون ’’الأمازيغي‘‘ الأصيل، والمكون ’’العربي‘‘ الدخيل، القادم من أحواز ’’دكالة والشاوية وعبدة والرحامنة‘‘، ومثلما نشأت أذني على ’’عيوط العرب الهلاليين‘‘، ترعرعت كذلك على مواويل ’’الأطلس المتوسط وتموايت وأحيدوس‘‘، وكان التعايش مسألة عفوية تماما.

لكنني انتبهت في ما بعد إلى أن التاريخ المغربي هو أقدم وأعرق من التاريخ الرسمي الذي نقرأه في المدارس، والذي يُصِّر على محو كل الحضارات السابقة، وعلى دخول العرب إلى المغرب.

هذا شيء لا يمكن أن أقبله من موقعي كمثقف ينتصر لقيمة الحرية والتعددة والحق في الإختلاف. لهذا أرى أن المغرب خسر الكثير وسيخسر الكثير من مقوماته الوجودية والثقافية. ذ

لأنه يريد أن يحصر مقومات الشخصية المغربية في بعد واحد هو البعد ’’العربي‘‘، ويعتبر البعد ’’الأمازيغي‘‘ مجرد نشاز أو بعداً ’’وحشياً‘‘ قد نتسامح معه أحيانا، ولكننا لا نترتفع إلى درجة الإعتراف به كمقوم جوهري يقف على قدم المساواة مع مقومات أخرى. وطبعا هذا يستلزم ما أسميته ثيمة ’’الحرية الجسدية‘‘ التي لا تعني في نهاية المطاف سوى حرية ’’الجسد الآخر‘؛ ’’الأمازيغي اليهودي الإفريقي الأورومتوسطي‘‘.

ومن هذا المنظور يبدو أنه من الظلم تسمية هذه المنطقة التي نعيش فيها بكل أطيافها ولَوْنِياتها ’’بالمغرب العربي‘‘، ونَقصي بجرةِ فكرٍ متسلطٍ الآخر الذي ننعته أحيانا -ببلاد السيبة أو بلاد العبيد أو الغزاة القادمين من الشمال-.

– هل ترى أن انشطار الهوية المغربية يشكل حيرة للمغربي في تحديد ولاءاته وإنتماءاته؟، أم أن الأمر أبسط من محاولات التنظير؟.

أعتقد أن مشكلة الهوية لا تطرح إلا في البلدان التي تعاني من تراجيديا التقدم والانعتاق من ثقل الماضي. الهوية هي مسألة متجذرة في اللغة والتربية والسلوك اليومي ورؤية العالم، وبالتالي لا داعي لطرحها من الأساس.

ما يلزم أن يُطرح الآن هو الإعتراف بالإختلاف والتعدد، باعتبارهما قوة وغنى للفكر والثقافة إمكانهما أن يُخرجانا من التقوقع، ومن نوع من الإرتهان لزمانٍ نزعم أنه خالدٌ ومطلق ومُسطرٌ سلفاً.

بالاعتراف بذلك؛ لا تعود لمسألة الانتماء والولاءات أية دلالة، لأنهما يصبحان حقا من حقوق الثقافة المتعددة والفكر المختلف.

– أبطال الرواية كلهم ينتمون إلى الوسط الفني والثقافي، تعددت مشاربهم التكوينية بين المدارس الغربية والمشرقية، هل وراء ذلك رسالة مفادها أن الوصول إلى مجتمع متحرر لن يكون بدون وعي ثقافي، أم أن الشخصيات وحدها أثناء الكتابة تحررت من عقال الكاتب متمردة؟، ماهو السر الذي يكمن وراء هذه الصبغة التي ضمخت بها شخصيات رواية سدوم ؟.

دعني أنبهك إلى مسألة أساسية، وهي أنني لست صاحب رسالة أو قضية يحاول إيجاد مُسَوِغٍ لهما، على مستوى الكتابة الروائية. لا، أنا فقط أَزْعُمُ لنفسي أنني كاتب روايات وأشعارٍ.

أحاول بالدرجة الأولى أن أطالب بامتيازٍ بسيطٍ، وهو أن تتم المعاملة مع أعمالي انطلاقا من معايير جمالية بالدرجة الأولى، أما مسألة الأفكار الثاوية خلف الشخوص والأحداث والحوارات؛ فهي متروكة لفكر الناقد الذي يبحث في ما وراء النص عن منطلقاته الإيديولوجية والفكرية والعقدية.

لكن هذا لا يعني أنني أنطلق في كتاباتي من سَدِيمٍ فكري أو إيديولوجي أو معرفي، ولكن الأمر فقط هو أن ما تَحَكَمَ في اختياري لشخوص رواية سدوم هو مسألة ربما قد تعود إلى لاوعيي، ولكنني أستطيع الزعم بأن اختياري لشريحة من المثقفين والمبدعين كأساس لروايتي.

ربما كان إنطلاقا من اختبار فرضية معينة، تتعلق بمدى قدرة المثقف الحقيقي على التحرر، وإنتهاك السقف الذي يمنعه من رؤية الأفق السماوي اللامتناهي، والذي لا يمكن إلا أن يكون أفق الحرية التي تتطلبها المرحلة التاريخية التي نعيشها.

نحن بكل بساطة نخاف من الحرية، ومن التمرد، لأننا نفترض النتائج الأخلاقية المترتبة عنهما قبل أن نعيش ذلك فعليا، وحضاريا وتاريخيا.

– هناك سؤال راودني، وأذكى جذوته حوار ’’الراهب‘‘ و’’كاميليا‘‘ في الرواية، جاء فيه ما فحواه ’’أن كل رواية مطبوعة بجانب حقيقي من حياة الروائي الواقعية، ولن يستطيع أي روائي أن ينسلخ عن سيرته المعيشية‘‘، وسؤالي هو أين يجدك القارئ في شخصيات رواية سدوم ؟.

كل رواية تحمل ترسبات لاشعورية للذات المُبدعة، ولا يمكن للروائي أن ينسلخ تماما عن ذاكرته وطفولته وماضيه وذاته، وإلا فإنه مجرد موظف يكتب تقارير إدارية لا تلعب فيها لا اللغة ولا الذاكرة ولا الذات أي دور.

ولكن الذات الروائية تمارس نوعا من المكر على المتلقي، إذ تستدرجه إلى سردايبها الذاتية، لكي يصادف ذوات أخرى، وأنَوات مغايرة وأصوات متعددة، وفي هذا التشابك ’’الهلامي‘‘ بين الذاتي والموضوعي؛ تكمن براعة الروائي في الإقناع. فالكثير اعتقدوا أنني أتخفى وراء شخصية ’’الراهب‘‘.

في حين أن رواية سدوم تركت هذه المسألة غامضة ما بين ’’الراهب وجلال‘‘. ولكن إذا وصل القارئ إلى هذه القناعة، فمعنى ذلك أن الرواية حققت مكرها المنشود.

– الجسد، العقل، التحرر، مفاهيم مترابطة في الرواية، كأنها نقطة انطلاق، مطية، ونقطة وصول، نقطة الوصول يظهر جليا أنها تكمن في التحرر، ليبقى الجسد والعقل فأيهما نقطة الإنطلاق، وأيهما المطية؟.

إذا ما نظرنا إلى الأمور جيداً، سنجد مفارقة غريبة جداً: يمكن للفكر أن يكون متحررا، لكن لا يترتب على ذلك تحرر الجسد، ولا على ممارسة الحرية الفعلية على أرض الواقع.

ولكن عندما يتحرر الجسد، فلا يمكن للعقل إلا يكون متحررا. فكثير من المثقفين يرفعون شعارات الحرية، ولكنهم يمارسون أشنع أنواع الرقابات والكبت عندما يتعلق الأمر بحرية الجسد في أن يسلك وفق قناعاته الشخصية التي لا تؤذي أحدا.

أنا أستغرب كيف يمكن للمبدع والمبدعة أن يقنعانا بالحرية والجمال، وهما غير مقتنعين بهما على مستوى السلوك واللباس والتربية والعلاقة بالآخر. وهذا ما تحاول رواية سدوم أن تتناوله بطريقتها الخاصة.

– الأوضاع السياسية المغربية كانت تستحضر نفسها في أحداث الرواية، وجاء ذكر ’’حركة 20 فبراير‘‘ في السياق، الآن بعد كل هذه السنوات، كيف ترى الوضع السياسي الحالي للمغرب؟، وكمثقف مغربي ما تعليقك على الأحداث التي شهدتها البلاد؟، صعود الإسلاميين على ظهر ما سمي ’’الربيع العربي‘‘؟، دستور 2011؟، الحكومة الحديثة؟، كيف ترى كل هذه الأشياء؟.

أعتقد أن تسمية ’’الحراك العربي‘‘ الذي ابتدأ في 2011 ’’بالربيع العربي‘‘ هي تسمية في غير محلها. إنها تحاول التشبه ’’بالربيع الأوربي‘‘ سنة 1848.

إننا ننسى أن كل ثورة تكون مبنية على المراهنة على المستقبل، وعلى تصور معين للزمان، يرى أن المستقبل هو تلك الإمكانات التي لم تتحقق لحد الآن، ونناضل لتحقيقها في المستقبل، وليس بالارتماء في مستقبل ثم اكتمال بنائه بالكامل في الماضي.

وما علينا سوى أن نقوم بعملية التفاف هائلة بالعودة إلى عصرنا الذهبي. كما أن كل ثورة لا تنهض على فلسفة جديدة للإنسان والمجتمع والدولة والقيم والمؤسسات؛ هي ثورة محكوم عليها بالعودة إلى الماضي الذي يضم ’’كمالا جاهزا‘‘، ما دمنا في الحاضر لا نمتلك أي شيء.

وطبعا إذا تصورنا الأمور بهذا الشكل، فلا نستغرب صعود الإسلاميين لأنهم مثلوا النموذج الجاهز الكامل في ظل خواءِ الحاضر، مثلما مثَّلَ البديل الحضاري للآخر اللأوربي؛ الذي يتم تمثله كآخر إستعماري مغاير لنا في الملة، ودخل بلادنا من أجل إبعادنا عن ’’نقاء‘‘ هويتنا.

إذن أمام هذا الفراغ في القدرة الإقتراحية، لا يمكن إلا أن نفهم لماذا بادرت الدولة العتيقة إلى ’’منحنا‘‘ دستور 2011، ولماذا قبلنا بالأمر وكأنه قَدَرٌ رحيم.

– أخيرا، كيف ترى الوضع الثقافي بالمغرب؟، وهل تغير بعد حراك ’’الربيع العربي‘‘ أم لا؟.

أكيد أن الحراك الأخير منحنا هامشا من الحركة والتعبير والإنتاج الثقافي، وقد تجلى ذلك على عدة مستويات؛ حيث ازداد المنتوج الفكري والإبداعي والفني، لكن هل ذلك يشير إلى حركة ثقافية تنويرية، تنطلق من مقومات الأنوار كما حددها ’’كانط‘‘، وهي تحرر العقل من كل وصاية أو توجيه؟.

أشك في ذلك ما دام الفضاء العام ليس ملكاً لحرية التفكير، بل ملكٌ للأمثلات الجاهزة التي تقدم نفسها للجميع على أنها الحقيقة المطلقة الوحيدة، والسقف الذي لا يمكن تجاوزه.  ولهذا فكيف يمكن للمبدع إن يبدع إذا كانت خطوط حركته  مرسومة سلفا؟.

– عبد الحميد شوقي شكرا مرة أخرى على هذا الحوار الذي ضمخته بفلسفة شاعرية.

الشكر لكم بعمق الأسئلة وقدرتها على النفاذ إلى بواطن الرواية.

أظهر المزيد

سعيد المرابط

كاتب صحفي، معد تقارير روبورتاجات وتحقيقات استقصائية، ومحتوى القصص الصحفية الرقمية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى