المجد لتلك الأيام التي مضت وصرنا نراها أجمل الأيام بعدما كانت بالنسبة لنا الأسوء على الإطلاق.
المجد لأيام الثانوية بكل لحظاتها الممزوجة بالمرارة والشقاوة..
المجد لأصدقاء تلك المرحلة الذين غربلتهم الأيام فاستمر معنا من استمر وغادرنا من لم يعجبه البقاء.
أقول قبل أن أرفع القلم في نهاية هذه التدوينة أنني هذه المرة لا أكتب لأحد ولا أكتب عن أحد بقدر ما أكتب لنفسي، هذه المرة لا أكتب قصة ألهمتني، ولا أستحضر خيالي لاستكمال أحداث ما تخطه أناملي، لن أبحث عن تسميات تليق بكل شخص أقحمته في جوهر الأحداث، ولن يكون هناك بطلا من الأساس.. هذه المرة سأكتب من أجلي فحسب بعدما نزعت الغطاء عن الكاتبة التي اعتدت وأدون عن مرحلة لم أمر منها وحدي بل مر منها كل شخص مهما اختلف موطنه وجنسيته.
الساعة الآن تشير إلى الرابعة والنصف فجرا.. صمت مهول، عقل يسبح ويمرح في لب الذكريات، فاستقر في الماضي القريب ليعيدني للحظات أكون كاذبة إن قلت أني لها لا أشتاق..
استعدت شريط ذكرياتي لثلاث سنوات على التوالي، حيث كانت السنة الأولى سنة الفرحة والدهشة، عالم جديد، مكان مختلف، أصدقاء جدد، ثانوية شاسعة، نسير في الباحة كالأباطرة، كما لو أننا لمسنا القمر بأناملنا، أولى سنة من سلك الثانوية! كان إنجاز عظيم بالنسبة لنا جميعا، مسار جديد نحو مستقبل أفضل.
أصابني حنين ملعون لتلك المرحلة، ومن حسن حظي حينها أنني حظيت بزملاء رائعين، كان قسمنا الأروع على الإطلاق، كان التناغم والإنسجام الذي بيننا يشهد به جل التلاميذ، كانت قلوبنا على قلوب بعضنا البعض وليس ضد بعض، كنا أشقياء، مشاغبين، مزعجين، نحب ارتكاب المصائب واللعب بأعصاب أساتذتنا، ومع ذلك كنا هادئين، كتومين، خجولين، مجتهدين ونحب أساتذتنا بالرغم من كل أفعالنا.. تقاسمنا سويا كل شيء، وحظينا ببعض طيلة السنوات الثلاث قبل أن نختلف أو نتغير أو ننضج أو نفترق.
أتذكر تلك الأيام، فأشتاق للعودة إليها، أشتاق لأن أعود تلك المشاكسة التي يشفع لها اجتهادها وخجلها، أشتاق للعودة إلى القسم مرة آخرى فأجلس أنا وصديقتي في آخر الصف بعدما اشترينا كل أنواع الحلويات التي سنأكلها أثناء حصة الرياضيات المملة.
أشتاق كثيرا للجلوس في الأمام في حصة اللغة العربية وأنا أبدي للدرس كل انتباهي واهتمامي..
أشتاق للعودة إلى حصص الفرنسية التي نهابها ونحضرها رغما عنا، أشتاق للعودة إلى القسم في حصة اللغة الألمانية مع ثلاث أساتذة على مر السنوات الثلاث الذي كانوا أساتذة عن حق وجدارة وزرعوا بداخلنا حب لغة لم نقرأها إلى حين الثانوية ففعلوا معنا ما بوسعهم من أجلنا على حساب أعصابهم وانزعاجهم من يباسة عقولنا..
أشتاق لحصص الرياضة التي لم نكن نزاولها فنحمل أنفسنا إلى أي مكان إلى حين حصة أخرى.. أشتاق لحصص العلوم في أول سنة من الثانوية التي لم نعطي لها أي قيمة أو اهتمام نحن الأدبيين فكنا نحضر الدرس لغاية واحدة هو أن نزعج أستاذتنا التي رأت منا الكثير من التصرفات التي كادت أن تفقدها صوابها..
كما أشتاق لحصص التربية الإسلامية والفلسفة والاجتماعيات وكل الحصص الأخرى التي غابت عن ذهني الآن..
أشتاق للحظات كنا نهرب جماعة من حصة ما فيغضب منا الحارس العام الذي كان يعتبرنا أسوء قسم مر عليه، فلا يحرم نفسه من معاقبتنا فنأخذ جميعنا عقابنا بضحك هستيري نابع من قلب لا يعرف الندم ولم يحدث أن كانت تلك آخر هروباتنا وفي كل مرة يشتكي منا الأساتذة من استهتارنا وغيابنا المتكرر في حين نحن كنا نعيش تلك المرحلة بكل مرح وطفولة ومراهقة وطيش في حدود المعقول -دون أن نهمل دراستنا- قبل أن تدوسنا عجلات الزمن القاسية فنصحوا على مرحلة نجد فيها أنفسنا أشخاصا كبار، ناضجين، لا يجب أن يرتكبوا حماقات الثانوية.
عن تلك المرحلة التي كنا أصدقاء، إخوة متآزرين، متحابين، نتحمل مسؤولية الخطأ جماعة ولا نلقيها على عاتق أحد منا، عن تلك المرحلة التي لا يمكن أن أختزل وصفها أو تعبير عنها في عبارة أو تدوينة بأكملها..
عن الثانوية التي عشت فيها كل أنواع الجنون والتي علمتني خارج أسوارها دروسا ما كانت في الحسبان.. عن مواقف أخذت من روحي أشياء جميلة لا تحصى، عن خيبات متتالية ممن لم أتوقع يوما أن تكون خيباتي هم مصدرها..
عن الثانوية التي جعلتني أشعر بمشاعر طفلة شقية ومراهقة متخبطة وشابة يافعة وعجوز مسنة..، عن مرحلة الثانوية التي صنعتني وجعلت مني ما أنا عليه الآن..، عن مرحلة أراها الآن بأعين جاحظة أنها لم تكن بالسوء الذي ظننت حينها ولم تكن بالقسوة التي توقعتها ولم تكن مريرة ولا أي شيء من هذا القبيل..
حتى هذه اللحظة التي أعيشها الآن سيتضح لي مستقبلا أنني حملتها ما يفوق طاقتها وأن ليس هناك مرحلة سيئة بل هناك نظرة سوداوية تحكم على الشيء مادامت محاصرة به، غارقة فيه، لا نجاة لك منه سوى الكثير من الصبر والقليل من السخط على الوضع والمضي قدما بأي طريقة وما أن تمضي قدما ستعود بكم هائل من الحنين إلى مرحلة لم تكن راضي عنها ولكن ما أن ابتعدت عنها ونظرت إليها نظرة فوقية واستحضرت ذكرياتك فيها وقارنتها بالآن ستجد نفسك لا إراديا تحن إلى ماضي مضى قائلا أنه كان مرحلة من العمر الرائع الذي حسبته حينها عمرا ضائع…
وها أنا الآن تماما كما ذكرت، بقدر ما كنا نستعجل أن تمر تلك المرحلة بقدر ما أنا أتوق للعودة إليها.
أدفع عمري كله إذا لزم الأمر لأستيقظ مرغمة في الصباح الباكر لأجهز نفسي وكتبي واتوجه إلى حصة الرياضيات التي أكره في الثامنة صباحا رغم قسوة المناخ وبعد المسافات كي لا يتكاثر الغياب فيستدعي الحارس العام ولي أمري الذي لم يحدث أن اكتشف تاريخي الحافل بالغياب والشغب، فأقف أمامه وأقول لنفس الرجل -الحارس العام- على مدار ثلاث سنوات؛ “أبي مسافر، وجدتي ماتت فلم تستطع أمي القدوم لأنها تعيش حزنها على فقدان والدتها، ولكنها أوصتني أن أبلغك أن تسلمني ورقة الدخول وهي ستأتي عاجلا أم أجلا.”
أجزم أنه كرهني من اقتحامي لمكتبه في كل مصيبة ولكنني الآن أزوره ويستقبلني في كل مرة بصدر رحب وحب كبير وابتسامة عريضة قائلا “زارتنا بركة، أهلا بك يا نسرين في ثانويتك”، وبعجلة يسألني عن حالي وأحوالي، نعم ذاك الرجل يهتف باسمي وأنا التي تتوقع في كل مرة أنه لن يتذكرني، ومن ثم يذهب ليمارس مهامه وأقوم أنا بجولة في الثانوية حيث أزور أساتذتي ومن ثم أغادر مثقلة بحنين ما كان يعرف النهاية.
أدفع عمري ليستقبلني الحارس العام بتكشيرة وتقويسة الحاجب بدل الابتسامة العريضة والفرحة التي أراها في عينيه.
أدفع عمري كله من أجل لحظة أصل متأخرة بثانية واحدة فينغلق الباب في وجهي وتفوتني الحصة..
أدفع عمري للحظة يقول لي حارس البوابة ارتدي “بلوزة” وإلا لن أسمح لك بالدخول، فأرتديها رغما عني بعد أن أقوم بإخراجها من الحقيبة وأنا ألعن الشخص الذي صممها والشخص الذي فرضها كقانون للثانوية يجب أن يحترم وينفذ..، أو أتحايل على الحارس فأدخل للثانوية متخفية مع باقي التلاميذ وصدقا كانت تلك متعة لا تضاهيها متعة آخرى، هل تفهمونني؟ هل تشعروا بما أشعر؟ صدقا تلك لحظات لن تعوض بأخرى.
لو كان الأمر بهذه السهولة والبساطة لن أتراجع لحظة لأعود إلى تلك المرحلة التي كانت تعني لي الكثير، فأعود لأصدقائي الذين ما عادوا كذلك وأعيد إلي سعادة لم أذق طعم حقيقتها إلا هناك بالرغم من كل الوجع الذي أصابني وانطلق وتفاقم تزامنا مع نهاية تلك المرحلة وربما قبل ذلك؟!
وأنا أستعيد الذكريات وأكتب، مع تعابير وجهي المختلفة، مع ابتسامتي وتارة مع عينياي التي تجمعتا فيهما الدموع لوهلة فقاوموا السقوط بصعوبة، انتبهت أن الساعة الآن صارت السادسة والناس كلهم نائمون ما عداي، مرت حوالي ثلاث سنوات أخرى على مرحلة الثانوية، وحنيني لها يكبر بمرور السنوات.. هي عالقة بداخلي كشيء لن يزول وهذا شيء يسعدني، أن تبحث في أرشيف ذكرياتك عن شيء ثمين بهذا القدر ذاك إخلاص من الذاكرة لأيام ثمينة لا تقدر بثمن.
فشكرا لتلك المرحلة بكل أشخاصها، بمواقفها، بحقائقها، بمتعتها، بجمالها، بمرارتها، بشقاوتها، بنجاحها، بدروسها، وكل الشكر والامتنان للأصدقاء الذين ما إن تذكرت مرحلة الثانوية خطروا بذهني فأفتخر أن ملامح الثانوية مازالت ترافقني وأثرها مازال يسكنني بأصدقاء أشم فيهم رائحة الماضي والحاضر والمستقبل بإذن الله، وينكسر خاطري حينما أتذكر أصدقاء تعاهدنا على الصداقة للأبد فاختاروا الرحيل بدل البقاء ومنهم من رحل بعد أن خلف بداخلي الأذى وأنا التي حرصت عليه من كل أذى قد يصيبه.
مرحلة الثانوية بكل لحظاتها هي عبارة عن مشاعر يصعب تفسيرها ومنحها القدر الكافي من التعبير والتفصيل..، هي فقط مرحلة من العمر وانقضت ولكنها في دواخلنا لم تنقضي.