ذكريات مسيد

نقش الطفولة

ذكريات مسيد – ذكريات المدرسة في المغرب

كثيرة هي تلك الذكريات التي تستهوي خوالجنا بين الفينة والأخرى فتتسربل بغلالة الحنين لتداعب أحاسيسنا الطائشة وهي تنبش قبورها المتردية وراء سكنات الدهر…

وبين هذا وذاك وجدتُني أرسو بقارب أفكاري على ضفاف ماض ليس بالبعيد، ماض لا زال قائما بيني وبينه كبير ود، ماض استهوتنا ذكرياته الخالدة حيث كنا نغمض عيوننا لنغوص في محيطها اللامتناهي..

نتخبط بين أمواجه العاتية مرة والساكنة كنسيم العشي مرة أخرى، نبحث عن شاطئ نرسي فيه بأشواقنا المهترئة علنا نحظى بلحظات سكون، نقلب بين دفتي مصاحفها البالية نطالع عناوينها البارزة..

مضى الوقت كلمح البصر أو أقرب دون أن أستشعر ذلك وعلى غرة من نفسي ها أنذا أجدُني أسمو بين أطوار معهد الإمام نافع للتعليم العتيق وفروعه..

أطوي السنين كطي السجل للكتُب بدءا بالطور الابتدائي ثم الإعدادي بعده فالثانوي.. وأنا الآن أقف على عتبات الطور النهائي الجامعي، أتأمل والشوق يأسر مهجتي تلك السنوات العامرة التي ما برحت تتملك كياني..

ذكريات مرّت مع تلك السنوات كسراب بقيعة ما لبثت تتلاشى كأحلام الصبا.

ذكريات مسيد

أعاود بث شريط ذكرياتي بمؤسستي فإذا بي أشعر بنقرات متقاطعة تهز فؤادي المكلوم وهو يقف على صفحات طويت لواحدة من أجمل المراحل التي يمكن أن يمُرّ منها طالب التعليم العتيق.

مرحلة نُقشت في أذهاننا كما ينقش على حجر الصلد، مرحلة جميلة بذكرياتها التي سكنت قلوبنا فما عاد شيء يمكنه أن يمحو آثارها الراسخة في أذهاننا.

مرحلة اقترنت ببراءة الصبا وعفوية الطفولة، مرحلة تعلمنا بين ثنايا لحظاتها أجمل الأخلاق وأصدق القيم، مرحلة سمت في نفوسنا وعظُمت بعِظم مطلبنا حينذاك، ألا وهو حفظ كتاب الله العظيم..

لا زالت رائحة الصّمق المنبعثة من دواتي تزكم أنفي وغبار الصلصال الأزرق الندّي يغشى الهواء حولي.. لَكَم أحنّ إلى تلك الصباحات التي كنا نتسابق فيها إلى تجفيف ألواحنا، نسارع إلى الالتفاف على شكل حلقات حول الفقيه (بالمفهوم العرفي لا الشرعي) لكتابة جزء آخر من القرآن الكريم.

كان المحظوظ مِنّا حينذاك من يمتلك قلما متينا من قصب “الهند”، فقد كان كالمحارب الذي يمتلك أفضل سلاح في المعركة..

كنت محظوظا فقد كان لدّي واحد أهدانيه صديق لي بعد أول أسبوع من انضمامه إلينا قادما من إحدى القرى المجاورة للمدينة، لا أكذب إن قلت أني لا زلت أكن له محبة خالصة في قلبي..

كنت أملك خطا جميلا، أسترسل كتابتي بقلمي السحري وأنا أنمِّق حروفي الأنيقة على لوحيَ المصقول ببراعة من خشب الزيتون الرفيع..

ضاع القلم ذات صباح، فضاعت معه جمالية خطّي اليوم لمّا استغنيت عنه بقلم حبري جاف..

يمكن لك أن تقول أنه من العبث أننا كنا نكسر أقلامنا كل صباح أربعاء احتفالا بنهاية الأسبوع الدّراسي، نلتمس من “عمِّي سلاّم” صبيحة السبت قلما للكتابة، يوبخنا، يعاتبنا، يزجرنا، بل ونمّد له أيدينا فيعزرنا بضربة خفيفة كي لا نعاود الكَرَّة، فنعود.. فقد أمسى الأمر عادة وتقليدا لا يمكننا الحياد عنها مهما كلفنا الأمر..

المسيد .. ذكريات لا تُنسى

ذكريات مسيد .. لا زلتُ أحتفظ من المعمرة ببعض الذِّكريات الحزينةِ أيضا، وذلك كيوم تَسَلمَ طُلاّب الأقسام الدراسية منحة مالية، وددنا -نحن أبناء المسيد- أن نحصل على سهمنا من هذا الفيء، رجونا، تمنينا، لم نحصل على شيء..

أحن أحيانا إلى تلك اللحظات الشّيقة التي كانت تُجَمِّلُ يومنا منذ قيامنا لصلاة الفجر حتى ما بين العشاءين.

رائعة هي بكل فقراتها؛ بدءا بالحزب الجديد، ومحو الورد اليومي وكتابة آخر غيره، والنفذة، واستظهار الجزء المكتوب صباحا (الجديدة)، وجزء الأمس (البالية)، مرورا بـ”السلاّكة” على يد المدررين الفضلاء -حفظهم الله تعالى ورحم من مات منهم- وهم يصحّحون أخطاءنا الإملائية.

كما كانوا يصُكون آذاننا بتلك الأنصاصِ الجميلة التي لا زال صدى بعضٍ منها يتردد لدى أذني يطرق سمعي. ويلفتون أذهاننا ببعض الرموز القرآنية التي تُسَهِّلُ علينا -ونحن صغار- حفظَ ما التبس علينا من المتشابه..

تعلو وجهي أحيانا ابتسامة غامضة وأنا أستحضر بعض المصطلحات التي رافقت مروري بالمسيد كمحضري، بقيت مسوَّمة في ذاكرتي رغم طول عهدي بها، كـ: (المعمرة، المحية، الحناش، اللاّسوار، الفتية…) مصَطلحاتٌ تُعتَبر كمفتاحِ مرورٍ لدى كل طالبٍ، بل وحتى عدوّنا الذي كان يرهبنا آنذاك، فبمجرد ذكر اسمه تسري في تلابيب نفوس المتكاسلين رعشة من الرهبة والخوف (القْضِيب)..

كان مدرري يشجعني على الحفظ وهو يتابع الأجزاء التي بِت أحفظها تترا.. مساءَ كل ثلاثاء، أستظهر على مسامعه محفوظاتي (اللاّسوار).

بدأت بحفظ آيات قصيرة أو ما كنا نَصطلح عليه “الخروبة”، ثم استزادَتْنِي سرعةُ حافِظتي، فزدتها..

أسابق أقراني للوصول إلى البقرة الصغرى، ثم كَبُر طموحي بكِبَر بقرتي. أنهيت الختمة/السّلكة، فأقمت مأدبة لرفاقي على شرف المناسبة اقتضاها العرف (الزردة).

كانت أمي -رحمها الله- أسعدَ امرأة في الكون، تغالب الدموعُ مقلَتَيْها وهي تؤثِثُ المائدة لضيوفي؛ فقد تحقق حُلمها -أخيرا- الذي كانت من أجله ترفعُ يدَيها للسماء متضرعة إلى الله التوفيق بأن يجعل فلذة كبِدها من حفاظ كتابه الكريم.

فلا شك أنها كانت تُعِد ابنها لما بعد الفراق، تَشحنُ قلبَه بنورِ القرآن ليصلها شعاعه في قبرها. فاللهُم اجعلهُ لها شفيعا يا أرحمَ الراحمين…

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي يوث.

Exit mobile version