اشتقت لبيتك ربي وأعرف أن لي معاصي كثيرة ولكن أطمع برحمتك التي وسعت السموات والأرض، فها هي نفحات الحج تتطاير وتنثر شذى عبيرها على صدورنا الجافة المرهقة الضيقة.. الحج هو الفريضة الخامسة من أركان الإسلام.
الحمد لله الذي فرض على عباده فريضة الحج حيث جمع المسلمين في بيته الحرام من كل دولة وكل عرق وكل صنف، ليوحدهم في لباس واحد ومناسك واحدة وكلام واحد لرب واحد.
يقول الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
كم تمنيت أن أكون من حجاج بيت الله الحرام، تمنيت أن أكون ملبيا وساعيا وأكون طائفا مهرولا زائرا وصاعدا، إنها مناسك الحج لا أراها إلا من خلف شاشات التلفاز وأشعر بروحانيتها العطرة، لأهتف لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
لم يكن لخيالي مدارك كثيرة فكنت محاصرا في بوتقة صغيرة، فكان خيالي مبنيا على أن أعيش بأمان أن لا أفقد أحد، أن أبني بيتي المنهمر، أن أبتسم في وجه أمي الثكلى، إلى أن هجرت من وطني وتوسعت خيالاتي وهمومي وحرمت من الجميع على أمل اللقاء في يوم من الأيام.
ربي حججت بخيالي فهل تقبل مني؟
إني حججت وأنا وحيد متعب، حججت وأنا بعيد منفي من وطني، حججت وأنا بعيد عن أبي وأمي، بعيدا عن نفسي وعن هوى دمشق. لطالما خاطبت ربي بأمور عديدة فعندما وصلت إلى مكة بخيالي بتُ أقول أشياء غريبة ولكني شعرت بأنني يجب أن أبوح بها فهتفت:
لبيك ربي وإن ولم أكن بين الحجيج في اليقظة طائفا
لبيك ربي وأنا في غربتي متعب
لبيك ربي وأنا بعيد عن أهلي مرغم
لبيك ربي وأنا مهجر عنوة
لبيك ربي على ركام بيوتنا
لبيك ربي على قبور أهلنا
لبيك ربي مع كل أم بلا طفل
لبيك ربي مع كل شهيد ويتيم، لبيك مع كل ثكالى ويتامى، لبيك مع كل مغترب، لبيك على عدد النجوم والبشر لبيك حتى نهاية العمر.. لبيك اللهم لبيك.
رأيت نفسي محرم أطوف حول الكعبة المشرفة وأنا أسبح وأهلل بحمد لله، تفكرت بأحجار الكعبة وتذكرت أبانا إبراهيم وكيف بنى الكعبة وجعلها بيتا لكل المسلمين.. وقوله تعالى في سورة الحج: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
رأيت نفسي أسعى مهرولا بين الصفا والمروة حيث ترك سيدنا إبراهيم ولده إسماعيل مع السيدة هاجر في واد لا يوجد فيها لا ماء ولا غذاء ولا بشر.. وكان سيدنا إبراهيم على ثقة بأن ربه لن يترك ذويه فنادته الزوجة يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي؟ فلم يلتفت إليها «وكأنه على يقين من وعد الله الذي لا يتخلف ولا يخيب»، فقالت له: ألله أمرك بهذا؟ فردّ عليها: نعم، فأجابت من غير تردد ولا قلق: «إذاً لا يضيعنا».
وبعدها رأيت أنني نفسي صاعدا إلى جبل عرفة ثم زرت قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وشعرت أنه رد السلام علي وقفت خاشعا أمام قبره أؤمن بأن الموت حق على الجميع، وتذكرت رابعة العدوية عندما قالت: “ليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب”. وقبلت الحجرة الأسود.
زرت الشفيع والبقيع مررت بمنى ومزدلفة، شعرت بأنني أقرب إلى الله أكثر، أدركت أن الله شرح صدري. لم أشعر بمشاق الحج أبدا ففرحتي تكاد لا توصف فالآن حققت الركن الخامس من أركان الإسلام. قليلا وأصحوا من خيالي صحوت متبسما فرحا راجيا من الله أن يقبل حجة خيالي وأن يكرمني حجة في اليقظة.