التواصل ظاهرة عامة بين كل الكائنات، فعالم الطيور يتواصل، وعالم النمل وكذا النحل يتواصل، ولكل عالم لغته التي بها يتم ذلك، وعالم الإنسان أكثر تواصلا وبأدوات متعددة..
ولعل أبرز وأقدم وسيلة استعملها الإنسان للتواصل مع المحيط الخارجي هي “الرسالة”، وهي الأداة التي عرفت تطورا عبر مختلف العصور، وعند رجوعنا إلى المصادر الأدبية فسنجد “أدب الرسالة”، وجلنا قد درس منه نماذج في المراحل الثانوية، وهو أدب حظي بالاهتمام في عصور الملوك والخلفاء، فخصصت له الدواوين واختير لتلك المهمة كتاب مهرة، يكتبون رسائل الملوك وترسل إلى الأقطار النائية، فيحملها الحمام الزاجل او ساعي البريد، ولكي تصل الرسالة إلى المرسل إليه فإن ذلك يستغرق أياما بل أحيانا شهورا، ولا عجب فالعالم في ذلك الوقت لم يكن قرية صغيرة تتشابك حولها خيوط الشبكة العنكبوتية، بل كان عالما معزولا، فما يقع في المشرق لا يدري به أهل المغرب والعكس صحيح.
رسائل الملوك والأمراء خصص لها مختصون يدونون الصادرات ويقرؤون ويردون على الواردات، وأما رسائل العامة فوضعها مختلف جدا كتابة وإرسالا وردا، ففي تلك الأزمنة كانت أمية القراءة والكتابة ضاربة بجذورها في أعماق المجتمعات، والخارجون عن الدائرة أشخاص معدودون على رؤوس الأصابع، ولن أذهب بعيدا، فقد كان إمام المسجد أو فقيه المدرسة هو المقصود عند ورود أي ورقة مكتوبة، يرسل الولد رسالة إلى أبويه في غلاف محكم الإغلاق ولدى وصولها يحملها الوالد -والشوق يملأ قلبه- إلى “فقيه المسجد”، ليقرأها ويشرح مضمونها للمرسل إليه فكان “فقيه المسجد” هو الصندوق الأسود لأسرار القرية، ورغم مرور الرسالة بكل هذه المشاق والصعاب إلا أنها كانت لها لذة لا توصف، وكان الناس ينتظرون قدومها بشغف وشوق ولسان حال الرسالة:
لا تحسب المجد ثمرا أنت آكله … لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وبما أن مسؤولية كتابة الرسائل والرد عليها من مهمة “فقيه المسجد” فإنه يبذل كل جهده حتى لا يكون أضحوكة وأحدوثة التاريخ، اللهم إلا في الرسائل المكتوبة باللغة اللاتينية فهو معفي عن قراءتها والرد عليها بل يكتفي بقوله للمرسل إليه “هذه الكتابة غير مفهومة يبدو أنها بالفرنسية، عليك بفلان أستاذ التعليم الابتدائي فهو يجيد اللغات الأجنبية”.
ولا بأس أن أورد قصة “فقيه مسجد”، تُحكى في أوساط مجتمعنا الذي يتلذذ بالنكت الساخرة ويتفكه بها في المجالس.
قصة هذا الفقيه؛ أن امرأة عجوزا جاءت إليه تريد منه أن يطلب من ولدها الذي يعمل بالدار البيضاء أن يرسل لها أداة من أدوات نسيج الزرابي واسمه بلهجة “الشلحة” (إماسن) وبما أن الفقيه غلبت عليه لغته الأم (الأمازيغية) ففكر جيدا ماذا سيكتب، فتح القاموس العربي دون جدوى.. فما حيلة العاجز، فكر مرة أخرى وقال للعجوز أعطني عنوان ابنك فإني ذاهب إلى الدار البيضاء الأسبوع القادم وأبلغه طلبك شفويا فكانت هذه الحيلة ذكاء أنقذ به موقفه المحرج فـ”لا أدري هنا ليست بنصف العلم”.
هكذا كان حال الرسالة القديمة في عصور العزلة، مشقة ومعاناة وجهد وفي النهاية كل شيء له مذاق ولذة.. وماذا عن الرسالة العصرية المتطورة؟
إن العالم اليوم هو قرية صغيرة يمكن القيام بدورة حوله في دقائق معدودة وأنت متكئ على أريكتك، يا للعجب كل هذا يحدث بل وأكثر من ذلك {ويخلق ما لا تعلمون}..
من كان سيصدق أن تتحدث مع شخص وينتقل صوتك من المشرق إلى المغرب ومن الشمال إلى الجنوب بل أكثر من ذلك صورتك ونقراتك على أزرار الأجهزة التواصلية.
إن الرسالة اليوم متطورة جدا فلم تعد ورقية، بل صارت إلكترونية، يتاح للمرسل خيارات متعددة (مسموعة، مكتوبة، بث مباشر.. إلخ) وأكثر من ذلك تصلك إشعارات قراءة المرسل إليه لها.. يا للعجب! تطور مذهل ومدهش.
كثيرة هي التفاصيل، ولكن هل عادت للرسائل لذة وذوق وهل بقيت للمرسل بقية من الشوق الذي كان يحظى به قديما؟.. ببساطة لا، لا.. وألف لا، بل مليون لا..
يفتح أحدنا حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي، مئات بل آلاف الأشخاص نشطون، تمر أيام وشهور وأعوام ولا أحد يراسل الآخر، فقط ترى أشباحا لا وجود لها.. وحتى الذين يتواصلون ويحبون مراسلة الآخرين يوصفون بكونهم مصدر إزعاج وقلق ولسان حال الكل داخل مواقع التواصل “عذرا لا أستطيع الرد أناملي باردة ومشاعري أبرد منها”.. باختصار إنكم تراسلون ذرية “المبرد”..
لم تكن الرسائل القديمة التي كان يتعامل بها أجدادنا مصدر الأحزان بل كانت مصدر السعادة والمودة، وأما الرسالة العصرية فيكفي أن تبعث لأحدهم أحد (الإيموجيات) خطأ لترى علامات استفهام تتوالى تباعا لتقول لك؛ لماذا هذا الرأس الأصفر والعين الغامزة واللسان الساخر؟.. فإن كان لك جواب ذكي فأنت المحظوظ بالبقاء على قائمة الدردشة وإن لم يكن لك جواب فمصيرك الحظر والإبلاغ..
أقولها وبكل مرارة آسف يا جيلي:
كل الموازين عندك مقلوبة؛ مواقع التواصل صارت “مواقع اللاتواصل ووكرا للأشباح الآدمية”.. آسف أن تكون كلماتنا ورسائلنا في حاجة ماسة لمحام يدافع عن منطوقها ومفهومها.