(…) يومها، كنت أعبئ رئتيّ هواءا، ثم أخطوا خطواً واسعا لألتقط الأنفاس، أضعها في قنينة شفافة لتجد من ينظر إليها بعينين زجاجيتن.. لقد اعتدت النظر بعين الضمير، وبعين طفل بريء صنع من روق أبيض..
صارت لي أعين كلما حاولت النوم لفحها شخير الوسادة، وطوق حنجرتي صراخا يجلدها بلهاث الأيام الراكضة صوب التيه الأعظم..
أنا اليوم كريشة سوداء منكسرة، تعبث بها رياح الحزن العاتية، أنتظر قدوم جنود حبٍ خسروا أرجلهم في المعركة، فأتوا بعدما نبتت موضعها أشجار أثمرت خطى صوب الخواء، تزرع به ربيعا بعد ذلك الخريف العاطفي الشاحب..
خريف قتل نور القلب بلا هوادة وحجب ألما شمس الروح، شمس لم تكن تخشى يوما التوابيت، وها هي كئيبة لحزن أرض روحها؛ الغارقة مساماتها بالملح.. أصرخ، أنادي، أصرخ مرة أخرى وجه العالم، بكل قواي المتبقية: دعوني أحدثكم عن الصفعات التي تهب من كل اتجاه، على خد القلب، دعوني أحدثكم عن جدران الروح الخشبية المتشققة، التي شوهت جمالها مسامير الخيبة، وجعلتني أنتعل تلك الخيبة في خطاي المتعثرة..
أجل، لقد كنت مجبرة على التخلي عن كل شيء، عن حذائي الذي حماني من تلك الأرض الملغومة، وها أنا اليوم صرت أركض بكل عنف وعنفوان نحو الخيبات، لأسقط في حفرة اللاحياة، وها أنا هذه اللحظة أعتذر لقدمي على كل شيء..
أعتذر بكل ما تحمله الخطوات من عثرات!..
أقوم من سرير خيبتي، في عمق ليلها الحالك، أخيط أفكار ذهني الممزقة بخيوط الأمل البيضاء، تحت ضوء ذؤابة شمعته الضعيفة، المنعكس نورها المحتشم علي، أضع الإبر بعيون الخيبات فأرتوي من نبع السراب، ثم أضع حدا للسيول التي شوهت الخد، فأنا ظلك الذي لم يخنك، لا في النور ولا الظلام، أنا ظلك الوفي الذي جعلت منه هيئةً لدمعة شاردة..
أناديك الآن، فتعال على هيئة تابوت، وأعدك أنني سأمشي صوب الموت ببساطة..
وأنا أحاول الاختباء من دموع هذا العالم الذي لا ينقطع بكاؤه.. بين دمعي ودمعهم برزخ، فلا أحد باستطاعته تحمل صراخي المكتوم قسرا، سوى هذه الوسادة المبللة، التي أشكو لها آلام الحياة، وما فعلته بنفسي الهاربة مني، فهذا الليل يذكرني بعتمة التابوت الصادقة، وبياض النهار يدثرني كفنا نقياً، وما هذه الحياة لي سوى قبر مفتوح، قبر يتسع كل رمشة عين للمزيد من الوله والتيه..