لم تقتصر أسبلةُ المياه بالطرقات العامة على عابر السبيل من البشر، لكنها شملت الحيوانات أيضًا؛ فقبل خمسةَ عشر عامًا على الأقل، كانت تنعمُ القرى في ريف مصر بأحواضِ سبيل مياهٍ للماشية، وهي عبارة عن بناءٍ مستطيل مجوّف تملأُه المياه، وذلك بواسطة بئر بجوار هذا الحوض، أو “بطلمة” تسحب المياه في الحوض، أو باتصاله بصنبور مياه -وهذا حديثًا-، ويقع دائمًا هذا الحوض، إمّا أمام المساجد الكبيرة بالقرية، أو بالمناطق الهامشية والبعيدة منها، وكان لا يقلّ عن عشرةٍ من أسبلة المياه للحيوانات في القرية الواحدة،
فتشربُ منه الماشية من الحيوانات التي تسير بالطرقات، وكذا تقف الطيور وترتوي منه في مشهد جميل من مشاهد الريف، وكانت هذه الأحواض تُغسَل كلّ يوم، وتملأ أولًا بأول، وتحظى باهتمام من العاملين عليها، فتروي الحيوانات من العطش، وتقييها من الشّمس الحارة في تلك البلاد وخاصة بصعيد مصر، حتى أنّ هذه الحيوانات كانت تعتاد أن تقف دون أن يوجهها أحد لتشرب من هذه الأحواض، عندما تحتاج لترتوي بعد مجهود طويل وتعب آلمَّ بها خلال رحلة الرعيّ.
انتشرتْ هذه الظاهرةُ لكثرة امتلاك الفلاحين لرؤوس الأغنام والبقر والحمير، والتي كانتْ ترعى وتتجول بالطريق، لتصل من حظيرة الماشية إلى الحقول، وقد اختفت بشكلٍ ملحوظ بالتوازي مع قلة امتلاك الفلاح لمثل هذه الحيوانات ورعايتها، وهذا يعود لقلة الزراعة، وعدم مراعاة الأرض لأسباب كثيرة، أهمها العبء الذي يتحمله الفلاح من الزراعة دون مساندة أحدٍ له، وحلّ مشاكل الزراعة التي تكاثرت عليه.
ومع اندثار هذه الظاهرة في قرى مصر، إلاّ أنّ هناك النزر اليسير منها، والذي أصبح في طوي الإهمال والتهميش والاندثار لعدم الحاجة إليها، ففي قرية “الهدايات” بقنا، يُطلعنا عبدالناصر شاكر القط، المدرس الأول للرياضيات والمهتم بالتراث وتاريخ القرى، أنّه بقي في قريته من هذا السبيل واحد فقط، يعرف بـسبيل “العورجي”، وهو وقف من الحاجّة “سليمة محمد عتمان” من عشرينات القرن الماضي أوقفتْ علية مساحة 6 قراريط لمن يقوم بخدمة وتنظيف السبيل فتكفل الحاج “عبدالباسط العورجي” بذلك ولذا سمى سبيل العورجي وما زال أحفاده الآن يقومون بخدمة السبيل حتي يومنا هذا وهو عبارة عن حوض ماء تشرب منه المواشي وكذا عدد 2 زير لترتوي العطشى من البشر.
وفي قرية كوم الضبع بمركز نقادة محافظة قنا، يوجد بئر الحرابوة وملحق به سبيل مياه للماشية من الحيوانات كما أنه بجواره مصلى تقام بها الصلوات الخمس من القدم، وقد حدثني السيد حمدان خضري الحربى، وهو من ورثة هذا المكان، بأن عمر السبيل والبئر تجاوز 150 عام وأنه مازال بهيئته وحالته رغم السنين الطوال التي مرت على هذا المكان.
أما في محافظة سوهاج فمازالت تحتفظ ببعض الأسبلة التى خصصت للماشية منذ زمن، كمثل سبيل “عطى أحمد حاكم” بمركز جرجا قرية بيت خلاف، وهو على اسم مؤسسة وقد بناه في سنة 1870م، وظل إلى الآن عامراً ويقوم على متابعته ورعايته أحفاده، حسب ما ذكر لي الباحث رأفت سعيد الخطابي من أبناء القرية، وأن الجمال تقف على هذا السبيل لتشرب منه في موسم حمل البوص في مشهد متكرر من كل عام.
وغير ذلك من الأمثلة الحية لهذه الظاهرة، التي تعد من المعالم البشرية التى صنعها الإنسان لاحتياجه الحياتية لها، والتي اندثر الغالبية منها، رغم أنها كانت منتشرة في يوم من الأيام بكل القرى، عندما كان هناك ماشية ترعى وتحرث وتنتج، وأرض تزرع وتحصد.