يقول ستيفن كوفي: “يمكن تعريف السعادة ولو جزئيا بأنها ثمرة الرغبة والقدرة على التضحية بما تريد الآن من أجل ما تريد في المستقبل” (ستيفن كوفي| العادات السبع للناس الأكثر فعالية | ص: 60).
وبهذا تكون السعادة هي تلك النشوة النابِعة مِن الداخِل الإنساني وهُنا المفارقة، فكيف للإنسان أن يبحث عن السعادة في مقتنياته التي لطالما حلم بها، أو في انجازاته التي دائما ما كان ولا يَزال يعمل على تحقيقها، بينما السَّعادة هي ذات مصدرٍ ذاتي محض؟ كيف نبعت من الذات لتسعِد هذه الذات عينها؟
لا أريد العودة إلى التيارات الروحانية وبالخصوص الغنوصية منها، تلك التي جعلت من الإنسان أداة لحبِّ الخالِق سبحانه، بحيث تكمُن السعادة في الحب الإلهي الذي لا ينال شرف الوثوق فيه سوى ذلك الراهب الذي بلغ مرتبة بعينها من الرقي الروحي الخالِص..
ولا أرغب أيضا باعتناق ما قاله بوذا أو براهما بين طيَّات الخرافات الشرقية المتداولَة منذ آلاف السنين، كما أنني لا أرتاحُ عند الخوض في أساطير اليونانيين والرومان على حدٍّ سواء، لما فيها من مغالطات تحاول َسرقة الحضارات من إنتاج الفراعنة القدامى ونسبها إلى الألسن الإغريقية أو اللاتينية على حسب الهوى والمعيار.
مع العلم بأنَّ هذه الحضارات وما حَوَت، وهذه الروافد وما تلت، كلُّها تصبُّ في نهر السعادة كمُعطى روحي بعيد كلَّ البعد عن الطابع المادِّي الذي نعيشه في الزمن المعاصر.
ستيفن كوفي ومفهوم السعادة
يعود ستيفن كوفي بين كلِّ هذه الأفكار إلى عناصر أساسية لتكوين سعادة دائمة، أعيد وأُكرر: دائمة، بالاستناد إلى الروح البشري بشكل خاص، حيث عبَّر عنها بكلمة: الذات، وهو بالفعل مصطلح فلسفي، يجعل مِن الإنسان هو بالذات صاحب مصيره، وله الكلمة العليا في حياته بعيدا عن المؤثرات الخارجية التي غالبا ما يتّخذها ذرائع لا طائلة منها قولا وصدقا..
وعليه يشير ستيفن كوفي إلى نقطة مهمّة جدًّا، ألا وهي التضحية، مما يعني تقبُّل الألَم، بينما في تصوُّرات الإنسانية الشائعة نجد السعادة تتجه نحو اللطف والهدوء وامتلاك كافة الملذات وقتما نشاء وبالطريقة التي نرغب فيها، وبالكميَّة التي نحددها مسبقا، وكلُّ هذا طبعا يقع في موقع مضاد ومناقض لما يُسمى بالتضحية والألم.
قد يكون ستيفن كوفي بهذا الطرح قد اقترب مِن الأطروحة البوذية التي تعتنق المعاناة كسبيل للوصول إلى الرضى بالحياة، ولكنَّ ستيفن كوفي كان في اعتقادي أذكى بكثير، عندما جعل السعادة تقترن بما هو مؤقت حاضرا وما هو دائمٌ مستقبلا، أي أنَّها شبكة من التعاملات التي تؤسس لما هو آت عبر دفع الثمن حاضرا، وهو بالتالي القانون الإلـهي الذي يقول: مَن زرع حصد.
السعادة نقطة التقاء المعرفة والمهارة والرغبة
يقول ستيفن كوفي: “نعرّف العادات بأنّها نقطة التقاء المعرفة والمهارة والرغبة” (ستيفن كوفي | العادات السبع للناس الأكثر فعالية | ص: 59).
ومِن هنا تنجلي كافة المبهمات في تعريفه للسعادة، فالتضحية التي تقود إليها هي عبارة عن عملية اكتساب المهارة عبر المعرفة مِن أجل توجيه الرغبة نحو المطلوب تحقيقه، وبهذا فإنَّه يصرف تلك الطاقة الهائلة للتضحية من منطق الناسِك ويعوِّضه بمنطقيات العامِل الذي يتعب مِن أجل الوصول إلى مراده وأهدافه.
هذه الطريقة في معالجة مفهوم السعادة تحصر الفرد الإنساني بين زاوية إمكاناته من جهة ومدى إصراره على تطوير استعداداته من جهة ثانية، أي أنَّ الإنسان سيدفع بكامِل قواه نحو الغزو الذي سيصاحب اشتغاله على ذاته، إمَّا لتحسين معارفه أو لترويض مهاراته، وهي عمليات مؤلمة ما محالة، تستحق بذل الوقت، الجهد والمال مِن أجل تقديم القربان والظفر بما يحلم به.
إنَّها تلك القوى الهائلة التي تنتج عند الإنسان عندما يقع في الأزمة، عندما يشعر بالخطر، أو عندما يحتاج إلى احتمال آلام مشرح الجرَّاح مِن أجل انتزاع الأورام التي تنتشر بين أيّامه وتعمل على تلوينها بالرمادي: السعادة هي ذاك النور الذي يصل إليه المرء بعد مروره عبر نفق العَمَل الجاد يا سادة.