يبدو بأن الرئيس الأميركي الشهير قد وقع في فخ القضية الأعقد في التاريخ الحديث، وها هو يحرك آلته الدعائية وكل ما يملكه من نفوذ من أجل تحريك ما هو راكد في مياه البركة العربية التي لم تكن صافية يوما، فالرئيس دونالد ترامب يحاول القفز متجاوزا هذه البركة، لكنه وكما يبدو قد سقط في مياهها فلطخ بدلته الأنيقة وشعره الأشقر بوحل التاريخ وأحقية الصراع.
ما من رئيس يأتي إلى سدة الأمر والنهي الأميركية إلا ويواجه الملف الفلسطيني الصهيوني المتشابك، وهذا الملف هو معقد لأنه يبدأ من صراع المشاعر والإيمان إلى صراع المصالح والصفقات، الكل يتناطح على الأرضية المقدسة، فلا العرب المسلمون يرضون بوطن بديل عن أولى القبلتيْن، ولا اليهود المتصهينون يقنعون بأراضي الشتات بديلا عن أرض الميعاد.
لولا القيادة العربية المتواطئة لما بقي الصهاينة ليلة واحدة على أرض فلسطين، فلو فتحت الحدود للشعوب العربية باتجاه فلسطين، لهبت الجماهير من كل صوب ناحية تلك الكمشة البسيطة من المتصهينين ولأكلتهم أحياء، لكن لموازين العمالة والخيانة بكفات الشهوات والمصالح لغات لا تضم بين قواميسها مصطلحات الشرف والكرامة.
ما الذي سيضر المسلمين إن نقل ترامب سفارته إلى القدس؟
لا أعتقد أنه سيحرك أمرا ما في النفسية الجماعية، فهي مثقلة بجراح كثيرة من العراق إلى اليمن إلى الشام من لبنان وسوريا إلى ليبيا مرورا بالخليج وأزمات المغرب الكبير، وما الذي سيتغير في سجادة تعلوها الرقع إن ما أضاف السيد ترمب عليها رقعة أخرى تسمى السفارة؟ ما الذي سيغير في بعض النفسيات العربية العميلة، إن ما انتقل السفير الأميركي للمبيت في القدس بدل تل أفيف؟ لن يغيّر شيئا بالنسبة لهم، فهم خدم طيع لأسيادهم بدءا من نتنياهو وأجداده.
ربما هي حركة رمزية تعلن فقدان آخر شذرات كرامة القومية العربية، ما يعجبني في الرئيس ترامب هي تلك الصراحة التي تطبعه، الرجل صريح وعند وعوده الانتخابية، فمتى يصبح للعرب رؤساء مثل ترامب؟
السفارة التي تعترف بالكيان الصهيوني على أرض فلسطين مهما كان موقعها هي أداة بمثابة الخنجر في الخاصرة الرخوة للأمة المسلمة، لكن لِما يتم نقل السفارة الأميركية في هذا التوقيت؟
هذا ما يجب تشريحه بالفعل، إنه الوقت المناسب لجس نبض الصميم العربي، وعلى حسب متابعتي لردة الفعل العميقة للجماهير العربية، فإن الأمر لم يتغيّر منذ الأربعينات، فقد ضجّ العرب رفضا لهذه الخطوة من على المنابر الإلكترونية استنكارا “كما أفعل أنا الآن”، وصرخوا ألما، وكتبوا الكثير من بيانات التنديد والوعيد والتهديد، لكنهم عادوا إلى سباتهم الحضاري-الإنساني بهدوء.
أعتقد أن خطوة كهذه من الإدارة الأميركية قد طمأنت حزب بني صهيون في كل مكان من هذا العالم، وزادت من قلق كل شريف يؤمن بأحقية الأراضي الفلسطينية المقدسة للمسلمين العرب، لأنها لن تتعدى كونها بالون اختبار، لكن لماذا؟ ولأية خطوة لاحقة؟
الإجابة بسيطة: نقل السفارة هو حلقة من سلسلة حلقات عبارة عن إجراءات تمهيدية من أجل تطويق الوجدان العربي-المسلم العريق، الهدف منه هو ضمان بقائه مخدرا وغير مستجيب لأيّ تنبيه من شأنه أن يجعل العرب في حالة ثورة غير متحكم بها تبيد الصهاينة نهائيا، وهي بعض المراحل التي تهيئ الطريق أمام الحاخامات الصهيونية من أجل تحقيقهم لهدفهم القديم المتمثل في هدم “بيت المقدس” وإقامة الهيكل، هذه الكذبة الأكثر سخافة في تاريخ الإنسانية.
هناك الكثير ممن يستغرب هذه الخطوات، لكنها صارت واقعا حاصلا، لأنّ السيد ترامب ليس غبيا كما يبدو، والأميركيون لن يقبلوا برئيس غبي، بينما في حقيقة الأمر هو الأذكى في زمننا المعاصر، فقراراته تنتجها مخابر أميركية تشتغل على الأفكار، وهو يجيد المناورة بشكل رهيب، وتأكدوا من أنّ الوحل العربي الذي لطخ بدلة ترامب الأنيقة سيغسله المال النفطي العربي بشكل هادئ وسلس، دون أن ننسى عطر المباركة الصهيونية له التي ستزيده قوة ونفوذا، لقد أسقط السيد ترامب بقراره هذا الكثير من العصافير بسفارة واحدة.