“سنتذكرك في صلواتنا…”
من منا لا يعرف كيفية لعب البلياردو، لعبة الكرات الثمانية على وجه الدقة؟
يبدأ كل شيء مع ضربة التحديد: يوجه اللاعب الكرةالبيضاء نحو نقطة معينة من الجسم الهرمي الشكل المتكون من خمسة عشرة كرة ومع ضربة البداية تتناثر الكرات على مختلف أجزاء طاولة اللعب…
كان يوم أحد والصيف على الأبواب، مرت عدة دقائق منتظرا قدوم أحد أصدقائي في ذاك الزقاق الضيق، أخذت أحدق في تفاصيل المكان وشد انتباهي جزء متشقق من الأرضية كان الخز قد انتشر على أغلب مساحته… ارتفعت درجة الحرارة على نحو غير متوقع ذاك الصباح رغم التساقط المتواصل للأمطار طيلة الليلةالسابقة: من أخضر ورمادي في ذهب وبقايا بلل كانت لوحة جميلة توحي بالحياة رغم ضيق المكان وتخبط الأبنية المحيطة… أعادني صوت القادم إلى واقع المكان وفكرت حين غادرنا أن تلك الصورة ستكون ذات يوم مكونا لبناء دلالي في إحدى مقالاتي…
مر على ذلك الصباح تسع سنوات، الحياة تمضي بسرعة حقا لكننا نحتفظ بما يكفي من التفاصيل لمواصلة الرحلة رغم ذلك، وذاك المهم حقا…
كانت أول محادثة لي مع “نوح موزونڤو” منذ أسبوعين تقريبا من خلال أحد مواقع التواصل الاجتماعي، شاب في بداية الثلاثينات من عمره يدير مركزا لرعاية الأيتام في مدينة “جينجا تاون” الواقعة شمال بحيرة”فيكتوريا” من جمهورية “أوغندا”…
تعاني المدينة تدني المستوى المعيشي وارتفاع نسبة الفقر رغم تصنفيها ثاني مركز تجاري في البلاد، إذ يعتمد الاقتصاد الأوغندي بدرجة أولى على القطاع الفلاحي الذي يمر بعدة أزمات خلفتها العوامل المتعددة للتغير المناخي في المنطقة كما أكد “نوح” وحسب عدة تقارير صادرة عن هيئات دولية مختلفة.
إلى جانب مشاركته الفعالة في العمل الإنساني الموجه لرعاية الأيتام في بلده، هو شخص مثير للإعجاب حقا… بوسع أي شخص تكوين نظرة تقريبية حول الأوضاع المتردية التي يعيشها الطفل الأوغندي بصفة عامة من خلال المحتوى الاخباري الذي يمكن الوصول إليه هنا وهناك على شبكة الإنترنت، لكن التواصل مع شخص مثل”نوح” من شأنه على الأغلب أن يجعلك تتأثر بما آل إليه الطفل فاقد السند في تلك البقعة من الأرض، لا نتحدث هنا عن تعليم ولا عن ترفيه، نحن نتحدث عن عدم توفر وجبة غذائية كافية لطفل واحد لفترة قد لا تتجاوز الشهر أو الشهرين على أحسن تقدير…
رغم ذلك، هناك كل شيء يوحي بالبساطة وبالأمل، بسفينة لا يكتفي”نوح” بأن يحلم بها إذ أنه يعمل على صنعها بالفعل والأهم أنه يزرع في كلمكان وأي زمان ثقة في غد أفضل تؤكده صور عديدة لأطفال نصف عراة يتناولون وجبتهم النادرة مثل ابتساماتهم وإيمانهم…
في البلياردو قاعدة بسيطة، الفوز مرتبط عادة بإسقاط الكرات الأقرب من غيرها إلى الفجوات الستة، الأبسط فالأبسط حتى يفتح أمامك الطريق إلى التسديد نحو الكرة الثامنة، في “جينجا تاون”، “أوغندا”فعلوا الأهم: بدؤوا الطريق وحاولوا إيصال أصواتهم بالاعتماد على وسيلة متاحة كما نراها صعبة المنال كما يرونها، “فهل تتوحد الرؤى خدمة للإنسان؟” هنا أترك الإجابة لكم…
صديقي الصحفي نصحني بعدم استعمال هذه العبارات في نهاية المقال، على فكرة ما من نهاية: النهاية بداية جديدة…
“نوح” يسعدني أن تبقيني في صلواتكم، مريم العذراء تلهمنا، دائما صديقي.
هكذا نحن، نسامر القمر ونحتفظ به في دواخلنا، حتى لو كان بعيدا…
إلى ألق ومعنى قادم…
