“- ما عاد بداخلي متسع من الصبر.”
هذا ما نطق به لسانه قبل أن يحمل نفسه وخيباته وأوجاعه المتراكمة ويذهب حيث اللاعودة.
أحيانا تشعر أن هذا الوطن لم يفعل شيئا عظيما غير أنه يتسبب في أذيتك كل يوم أكثر، بأساليب وطرق مختلفة وأحيانا ماكرة..، تود أن تُبَرِئ الوطن من التهم التي نَسَبْتَهَا إليه، تحاول أن تجد له ألف مبرر ومبرر لكل الجرائم التي يرتكبها في حق كل شخص منا، ولكن في خضم كل هذه المتاعب الملقاة على عاتقه وفي خضم كل هاته الحقائق التي يصعب على عقلك تزييفها أو تكذيبها تجد نفسك غير قادر أن تمنح له مبررا واحدا لكل ما يرتكبه في حقنا.
في قرارة نفسك تعي جيدا أن الوطن لا ذنب له في كل ما يحدث، تعترف أنك تحب وطنك بقدر كرهك له، ولكنك تكرهه أيضا بقدر حبك له..، في قرارة نفسك أنتَ متيقن أن الوطن سفينة لا تقود نفسها بنفسها بل هناك من يقودها، لذلك فالوطن ليس بالضرورة أن يسير في الإتجاه الملائم الذي يرضي كافة الناس وعامتهم، بل كثيرا ما تضطر سفينة وطننا لكي ترسو على شاطئ آخر هي بدورها لا تريد أن ترسوا عليه..
تتعدد زوايا النظر، تتعدد النقاشات، تتعدد الأقاويل والأفكار ولكننا في خضم كل هذا نتشارك نفس الأوضاع، نفس الأوجاع ولكن بدرجات متفاوتة، وإذا ما عدنا إلى السبب، نلقي اللوم على الوطن بكل ما تختزله هذه الكلمة من معاني عديدة فيها مزيجا من كل شيء سلبي وإيجابي، جميل وقبيح، مؤلم ومفرح…، نلقي اللوم عليه لأننا اعتدنا ألا نسمي الأمور بمسمياتها، فنختبئ خلف أي شيء قابل للتصديق، متعارف عليه من قبل الجميع.
لذلك فعندما يتضخم الشعور بداخلنا، نقول أرهقنا هذا الوطن، أتعبنا ولم يَتْعَبْ بعد من تعبنا.
تصل لمرحلة أنك تعبتَ بالفعل من تعبك، تعبك هذا ينال منك، ووجعك يقتات منك، وما بيدك حيلة تجاه كل شعور يعتريك.
تقول أن هذا كثير عليك لتتحمله وحدك، ولكن الواقع يُحَتِم عليك أن تتحمله بل ويجبرك على تحمله إن صح التعبير، تشعر أنك في فترة وجيزة، وربما بعد مشوار طويل جدا أن الحياة وضعت فوق صدرك جبالا من الهموم تضغط عليك وبالكاد تكاد تقتلك.
ضاقت بك دنياك..
ضاقت بك نفسك..
رحتَ تجوب شوارع مدينتك، تغامر بك في أحياء مخيفة، تجرك قدميك لأماكن لا تعرفها، تسير فيها بدون تحكم منك، أنتَ لست هنا، غير مدرك لما يحدث حولك، تسير فحسب إلى مالا نهاية كما لو أنك تهب نفسك للمخاطر على طبق من ذهب، قناعة منك أنه لن يصادفك أسوء مما صادفك. ولكن الله لا يتركك، بل في كل خطوة منك كان هو فوق سابع سماء ينقذك، تساعدك أياديه الخفية، يغير مسار وجهتك، تجد نفسك بين أحضان مكان هادئ جدا، مريح تماما، يليق بعزلتك، تحاول أن تختلي هناك بنفسك عن العالم أجمع عساك تعثر على الراحة التي يرجوها قلبك، وعلى أمل أن ينعكس هدوء المكان على دواخلك المشوبة بفوضى عارمة، والتي إن قمت بتشريحها لوجدتها مبعثرة، متخبطة، غارقة في الوحشة والأسى لحد مروع، مروع بالفعل.
تجلس لوحدك كمحاولة فاشلة لتطبطب على نفسك، تحاول أن تمنح لروحك جرعة من الأمل في خضم كل هذا اليأس الذي يحيط بك، تنجح لثواني معدودة ومن ثم تنهار بكل ما أوتيت من وجع، ذاك الوجع الذي يُشعِركَ في كل حين أنه أعطاك وعد شرف كي يلازمك، وأنه رفيقك الذي سيرافقك حتى وإن خذلتك سعادتك، فوجعك مخلص، لن يخذلك..
تبدأ الأفكار السوداوية تجوب أزقة عقلك، تنهشك، تسيطر عليك، تبني حولك سورا شاهق العلو وتحتجزك بداخله لحد يصعب عليك التحرر منه.
تتعب من كل شيء، تتعب حتى من نفسك، ولو وجدت سبيلا لتتخلى عن ذاتك بغية خلع منك شعور التعب، لفعلت.
تهرب وجعا من كل الأماكن، تقرر أن تنزوي في غرفتك بين الجدران الأربعة، عسى أن تحتضن الجدران ألمك الشنيع، المقيت، المميت.. في الوقت الذي لم يحتضنك فيه أحد.
تلوذ هناك بكتمان خانق جدا، فيتحول كتمانك لدموع ساخنة تمطر بغزارة تحرق وجنتيك. تجد أن كل الحروف المنمقة والمرتبة تعجز عجزا رهيبا في وصف ما تشعر به.
تغرق في محيط الحزن بكل ما أوتي من عمق مرعب، يصبح كل ما حولك سواد قاتم. تقتنع أن الأمور ستبقى على حالها، وإن تغيرت فلن يزداد الأمر إلا سوءا.
ولكن مهلا؟ أخبر عقلك أن يتمهل.
تمعن جيدا في حياتك، تساءل في ماذا يُفيد الحزن الأبدي؟ أ هو يُغير من أحداث العالم شيئا ما؟
أو لا شأن لنا في العالم، دعنا نتساءل بصيغة آخرى، هل حزنكَ أنت يُغير فيكَ شيئا معينا أم أنه يزيد الطين بلة؟
ما نعيشه ليس غريبا علينا نحن البشر، وليس بمستحيل أيضا، فنحن لن نعيش في سعادة مستمرة، ولكننا في نفس الآن لن نعيش حزنا متواصلا.
انفض عنكَ غُبار الحزن والتعب، انتشل نفسك من الخيبة والوجع، وانهض مجددا، فالحياة رحلة، رحلة فيها من العراقيل ما لا يعد ولا يُحصى والتي ستصادف فيها ما قد لا يستوعبه عقلك…، رحلة قد تتصادم فيها مع واقع أشد مرارة وتواجه مشاكل ترى فيها نهايتك، ولكنها مجرد رحلة تنتظرك بحلوها ومرها، بحساناتها وسيئاتها، وعدوك الحقيقي في هذه الرحلة هو يأسك وحزنك، وما دمت تسير في طريقك لتعيش رحلتك لابد أن تصادفهما كمحطة استراحة تُجبرك على الوقوف فيها لترتاح من مشقة الطريق، حينها فقط عليكَ أن تحارب بكل قوتك كي لا تقف فيها طويلا وتأخذ من ذاك المكان المحطة الأخيرة التي لن تواصل من بعدها، فتستمر الرحلة وتبقى أنتَ عالقا هناك في تلك المحطة للأبد..
كلما أطلت في حزنك وتعمقت فيه، أوديت بنفسك للهاوية، فحارب بكل ما لديك من استطاعة في سبيل أن تتحرر من شعورك ذاك.
لا بأس أن تلقي اللوم على الوطن إن كان ذلك سيشعرك بالارتياح نوعا ما، يحق لك أن توبخ نفسك ما بين الفينة والآخرى، أن تتصالح مع ذاتك ومع الواقع المر ومع الناس الأشد مرارة..
ولكن تيقن أن الحال غير ثابت، بل يتغير باستمرار..، كل ما تظنه مرا بوسعه أن يمر، فقط تحلى بالقوة والصبر، تحمل حتى لو كان الوضع في انهيار، قاوم واصمد وتجاوز.. وتذكر أن الله لا ينساك بل يؤتيك باليسر والفرج في الوقت الذي تشعر فيه أن العسر قد أرهقك.
كل شعور سيء سيمضي كأنه لم يكن، هذا القلق سيمضي، هذا التعب سينقلب لراحة بعد مشقة وعناء كبيرين.. ستطيب نفسك وتهدأ، سيعوضك الله بكل ما هو جميل.
الليل لا يدوم طويلا بل في كل مرة يليه الصباح، وبعد العتمة تشرق شمس يوم جديد. كذلك هو الشأن بالنسبة لمتاعبنا في الحياة، لاشيء دائم ولا شعور أبدي.
الله أكبر من كل شيء، وأكبر من كل شعور، فامضِ في طريق حياتك مستبشرا.