في هذا العالم المكتظّ بالصّعاب والعقبات الّتي طالما طرحت أفئدتنا أرضا وهنًا وحزنًا.. وجدنا أنفسنا نتدافع لتسديد ضريبة كلّ فعل وقول، حتّى إيماءاتنا.. نظراتنا العفويّة.. ونبرة الصّوت المتقلّبة أحيانا، كلّها نُحاسَبُ عليها محاسبة فوريّة.. حتّى وإن لم تكُ فوريّة فإنّ القدر يؤجّل مجازاتنا.. يؤجّلها لكن لا يتغافلها..!
في هذا العالم؛ مُحالٌ أن يحيا إنسان حياة كلّها سلام واطمئنان.. لابدّ من مصادفة الآلام والشّجون وملاقاة تعسّر وشدّة، ولنعلم أنّ مجيئها لا يكون فرادى! فالحياة لا ترفق بضعيف مسكين، وأفئدة النّاس لا ترقّ لمحزون.. لا شيء يمرّ مرور الكرام في هذا العالم.. لأنّ الحياة ليست أمّك الّتي تشفق لحالك وتتناسى زلّاتك..
نحن في هذه الدّنيا كمن يخطو بحذر على جزيئات صغيرة جدّا من البلّور فتُدمَى القدمان، لكن لابدّ من مكابدة هذا الألم لتجاوزه! نحنُ هُنَا كالمُصطفّين أمامَ طابور الحياة، نترقّب ما ستُغدقُ وتفيض به علينا.. ظنّا منّا أنّ الحياة تودّنا وتحبّنا تمامًا كحبّ والدينا لنا، لكنّنا نكتشف بعدها أنّنا خُدعنَا وأنّ الحياة خانت تلك الثّقة الّتي وصلناها بها.. فأذاقتنا مرارة طعمها واقتتنا من علقمها..
لكن سرعان ما نسترجع قوانا لأنّنا ندرك جيّدا أنّ كلّ مرّ سيمرّ وأنّ جوهر السّعادة لا يكمن في غياب المشكلات، إنّما يكمن في كيفيّة التّعامل معها وتجاوزها..
كلّنا نذكر أنفسنا عندما كنّا صغارًا ونذكر تلك الأيّام الّتي تصطحبنا أمّهاتنا فيها لتناول حقنة الوقاية الصّحّية.. كانت تلك هي الأسوء والأمرّ خلال طفولتنا! كنّا نتمسّك بحوافّ جلابيب أمّهاتنا ونرمقهنّ بنظرات اللّوم وأفواهنا مقوّسة لأسفل، تقويسة تنمّ عن خيبة أمل عظيمة..
بعد أخذ الحقنة بدقائق يعود كلّ منّا إلى هدوءه وسكينته، ثمّ علمنا أنّ مرارة هذا الألم لم تكن إلّا سلامة وبرءا لنا..
الكثيرون منّا عاشوا قصص حُبّ عظيمة، منها ما تُوّجت بعقد قران وحفلة زفاف تجمع المحبّين والمقرّبين، ومنها ما خُتمَت برسالة وداع أبديّ وقصيدة مخطوطة بدموع الفراق بعد سنين العشق الطّويلة، سنين تمّ فيها مشاطرة الأحلام والآمال، الآلام والهيام..، سنين محتها لحظة ضعف قويّة.. كطفل حالم شيّد قصرًا من رمال الشّاطئ الذّهبيّة لتجيء بعض الأمواج العاتية وتعصف بها، فتذوب بين ذرّات الرّمل أحلامه..
هكذا هو ختام العديد من روايات الحبّ والغرام؛ لكن قدر الحياة لا يعلو عليه أمر، لا يغلبه تمسّك الحبيبين ولا يشفقه فراقهما، لم تربكه لمعة العيون ولهفة الرّوح وشجن الصّوت.. بل شاءت الدّنيا أن تفصل تشابك الأيادي لتجمع كلّ يد بأخرى ترى أن لا خير إلّا فيها!
وهكذا يحيا أغلب العشّاق، اعتادوا وجع الزّمن واعتاد الزّمن وجعهم، إلى أن يمرّ مرّهم. يوجد من بيننا من جعل ركيزته في هذا العالم العلم والتّعلّم، فكرّس حياته منذ صغره للكتب والكرّاسات واللّوح والقلم فتراه يغوص في بحر أحلامه الشّاسع وينتقي أخيَرَها من بلوغ لمطلبه في العلم وسفر لغرض المسيرة التّعليميّة والارتقاء والشّمُوخ لأعلى مراتب المهن..
لكن للحظّ دور جسيم في حياة كلّ منّا؛ لذا فإنّ الحياة أرادت منه أن يكون شيئا آخر بعيدًا كلّ البعد عن ما يتمنّى.. شيء يخرج به للنّاس علنًا مع ابتسامة خفيفة تعلو المحيّا، لكنّ الرّوح تحمل الكثير من الخفايا وبقايا الأحلام المتلاشية..
علينا أن نتعلّم التّعايش مع أقدار هذه الحياة وأن نفهم تناوب ما يحمل صبغة حُلوةً وكلّ ما يحمل صبغةّ مُرّة، علينا أن نتحلّى بالشّجاعة والقوّة لتقبّل مرارتها ولإدراكنا بأنّ كلّ مرّ سيمرّ.. ولأنّ العالم يُنهك كلّ ما هو ضعيف، فنحن نولَدُ مرّة واحدةً، ولادة تولد معها جميع أقدارنا..