من الدمامة بمكان، أن يغتال صوت بكتمه حد الخنق، وتقطع أوصال نبراته؛ لا شيء سوى أنه غرد خارج السرب، بنشاز سليم عن جوقة سخرت أياديها للتصفيق، ورمي الناس بالحجارة..
نحن شعب يحب الكذب، نغتال الحقيقة حين نجدها، لأنها ترعبنا، تعرينا أمام مرايا أنفسنا الذميمة، وهذا ما ذهب إليه النمساوي توماس بارنهارد، في قبوه: “أنا أكتب حتى وإن كان ما أكتبه ليس غير كذب أقدمه أنا على شكل حقيقة.. بالتأكيد نحن باستطاعتنا أن نطالب بالحقيقة، لكن الصدق يكشف لنا أن الحقيقة لا توجد.. ما نصفه هنا هو الحقيقة، ومع ذلك هي ليست الحقيقة تماماً لسبب بسيط وهو أن الحقيقة ليست بالنسبة إلينا غير أمنية ورعة”.
لا أدري لم سالت عبراتي جارفة حرقة مكتومة من سحيق النفس، كأنها كانت تسحب ذلك العشق الملتهب للكتابة والقراءة نحو موت أبدي.. غفوت لحظة، دون أن أشعر بوقع حوافر الوسن، وفِي إغفاءة الحزن تلك؛ تراءى لي وجه الداه، من بين شجيرات طلح تلمع شماريخها لماعاً يذهل الألباب، متلفعاً سلهامه الغربيب، عاري الرأس الأشخم، ومتزنراً يراعاً من قصبٍ مقطوع الرأس، كأنه يشير إليّ بشيء لم أسبر كنهه.. وحين أفقت وجدتني بلا لونٍ، ومخضب الوجه بالهواجس، ألعن هذه الحياة القاسية كالحجر الصلد، العبوس كقوادة عجوز، “والبيذارة الغيذارة الشنوءة” على رأي الأندلسي في العقد الفريد.
كان أول ما صادفني، بعد ولوجي إلى عالم “مارك” الأزرق، تدوينة صحفي مرموق، ومالك جريدة رقمية، من أكبر صحف، عفواً دكاكين السخافة.. تضمنت تدوينة الصحفي كلمة “ترجمة”، مبسوطة التاء التي فكت أقواس ربطتها تحت مطرقة صماء من جهل مقيت، منصوبة على مشانق الفجاجة، وقد نهشت كما تنهش القشاعم فرائسها بخطاطيفها، وهي تأن بهمس خاشية أن تخدش جلال صمت المهيب، الذي طوقت به خاصرة الإعلام هنا في المنطقة.
صحافة السحت هي صحافة تطويع المفردات، وتجميل الكلام، المتحرر من التزام أخلاقي.. صحافة يمارسها موظف يتلقى راتبًا مقابل عمله، ناسياً أو متناسياً أن الصحافة ليست وظيفة
لحظتها، تذكرت “حنفي الدهاه”، وسمرة البن المعتق، التي تندلق من بشرته، في محبرته، بمنفاه السينغالي، بعيداً عن نسائم شاطئ نواكشوط، وهو الصحفي الذي يذكرك بهدوء ”أوفيد“ بمنفاه البعيد عن روما.. تذكرته وهو اللاجئ اختياريا، يحمل حلمه الكبير، وقلمه الصغير، مطاعناً رعونة الجنرال عزيز، “لم أعتبر الصحافة يوما مجالا آكل منه خبزا، أو أسكت به صرير أمعائي الجائعة.. ولكنه مجالي لأدافع فيه عن خبز غيري وكرامته..
إنها متنفس الآهات الحبيسة في دواخلها، ومنفث لواعج المصادرين ممن تريد لهم الأنظمة الاستبدادية أن لا يروا بغير عيونها، وأن لا يسمعوا بغير آذانها، وأن يخرسوا إن لم نتكلم بألسنتهم”، وهنا يصرخ حنفي، ملء فاهه، متناصاً مع سعال أمل دنقل، ”الصحافة هي عيناك حين يقلعانها، ولو أثبتوا مكانهما لؤلوتين.. ولهذا فحين تكون خبزا لممارسها ستَحْفىَ، وحين تكون نَعْلاً لمشاويره سيَحْفَى“.
هنا، لا عيون للإعلام بالصحراء، كأي شيء آخر بها؛ مزور ومؤقت، إلى حين، يشبه وجه عجوز بغية ملطخ بالخضاب والمخاط، ومن يحاول ممارسته بمهنية ومن القلب، متملصاً بقلمه من يد القبيلة، والولاءات الضيقة، سيُرمى في البحر متلاطم اللجج كالهارب من الرمضاء، أو يترنح بقلمه الثمل من بقايا موائد آلهة نصبت نفسها قسراً، ما بين الابتزاز واللصوصية، وبين ممارسة التواصل بعيداً عن مفهوم الصحافة والإعلام، يتلمس قلمه الذاهل، ويتحسس جيوبه الشرهة، وهو يتقدم ببطء كمن يخشى أن يوقظ نهار ضميره المتغطرس الذي يتباطأ في المشي كحسناء فاتنة الأرداف.
إنها صحافة تطويع المفردات، وتجميل الكلام، المتحرر من التزام أخلاقي.. صحافة يمارسها موظف يتلقى راتبًا مقابل عمله، ناسياً أو متناسياً أن الصحافة ليست وظيفة؛ بل سلطة تمارس صلاحياتها لخدمة المجتمع، بكل مهنية وأخلاقيات، فكيف يتوب هؤلاء عن أنسنة ذواتهم، وضمائرهم، والصحفي الحر النزيه، إنسان عاشق لأفكاره، والعاشق لا يتوب.. حين يتحول الصحفي، من رسول حقيقة، إلى قملٍ يمتص دماء الفقيرات، وجب أن نعترف، أن عيون “صاحبة الجلالة”، قد أصابها الرمد، كما غزت الرحضاء جسدها المحموم.