ظاهرة تلبس الجن بالإنسان – الجزء الأول

إن مما لا شك فيه أن الناس يؤمنون بظاهرة تلبس الجني بجسد الإنسي إيمانا عميقا، ويتحكم فيه وينطق بلسانه، فيصبح الإنسان عين الجني التي يبصر بها وأذنه التي يسمع بها ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولسانه الذي ينطق به، فعلى هذا الأساس الجني يعرف أدق التفاصيل على الإنسي بل وحتى عقله الذي يتحكم في الجسد كله يستطيع الجني أن يتحكم فيه!!! إذن ما حقيقة تلبس الجن بالإنسان؟ وما موقف الإسلام من هذه الظاهرة؟

إن عمدة أدلة القائلين بتلبس الجني للإنسي ودخوله في بدنه وصرعه له هو الآية رقم (274) من سورة البقرة، ولكن ذهب كثير من المفسرين إلى أن الآية توضح حالة الذي يأكل الربا بالضيق الشديد والاكتئاب العميق مع علمه أن الربا حرام، مثل الذي يتخبطه الشيطان أي يضله ويغويه، وهذا غاية ما يريده ويستطيعه الشيطان بابن آدم بل ليس له سلطان على ابن آدم إلا أنه يوسوس له ويغويه وليس كما أفهمنا البعض أن المس المقصود به دخول الجن جسد الإنسان، لأن الله سبحانه وتعالى لم يمكن الجن من التلاعب بابن آدم المُكرًّم في القرآن.

وكما قال الدكتور الأكاديمي الأردني أبو حسًّان(1): “الربا جريمة اجتماعية خطيرة، ولها أثارها النفسية والاقتصادية والاجتماعية على الفرد والمجتمع، وما يحسن بيانه والتنبيه عليه في هذا السياق أن الآية تتحدث عن حالة قيام المرابين في الدنيا، ولا يمكن فهمها على أنها تتحدث عن حالتهم حين يقومون من قبورهم يوم القيامة، لأنهم لو كانوا كذلك لكان ذلك نعمة لهم بسبب فقدانهم للإحساس بما يجري حولهم حينذاك، لأن قيام المرابين من قبورهم على تلك الحالة يعني أنهم لا يحسون بما يحدث حولهم من أهوال جسيمة، وهذا من الخير الذي يساق إليهم، ما يلزم منه استبعاد فهم تلك الحالة بأنها تكون يوم القيامة حينما يبعث الناس من قبورهم”.

أما كلمة المس التي في الآية الكريمة لم تُفسًّر بالتلبس في جميع المعاجم اللغوية المعتبرة، بل من العلماء من قال أنها مأخوذة من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَامَسَّهُمْ طَـآئفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَاهُم مُّبْصِرُونَ} الأعراف (201).

قال الدكتور أبو حسَّان: “وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله، فهذا هو المراد من مس الشيطان (الوسوسة)، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطا، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى، وتارة المَلَك يجره إلى الدين والتقوى، فحدثت هناك حركات مضطربة، وأفعال مختلفة، فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان.

فالآية تتحدث عن حالة الجزع والهلع التي تصيب المرابين نتيجة تمزقهم الوجداني بين معرفتهم بحرمة ما يرتكبونه، وفي الوقت نفسه جشع نفوسهم في تحصيل المردود المادي عن طريق الربا، فتسيطر عليهم حينها حالة التخبط المذكورة في الآية”.

أكثر من هذا كيف سنفسر قوله تعالى على لسان سيدنا أيوب عليه السلام {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}، ألا يمكن القول أن الأنبياء معصومين من الشيطان، إذا أردنا أن نفسر المس هنا بالتلبس (المزعوم)؟

ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: الحمد لله الذي رد كيده في الوسوسة؟ فلماذا يغفل المؤمنون بظاهرة التلبس هذا الحديث ويستدلون بنصوص إما صحيحة غير صريحة أو صريحة غير صحيحة؟

ونعود إلى الأدلة الأخرى التي يستدل بها المؤمنون بظاهرة التلبس الجني

من هذه الأدلة، حديث عثمان بن أبي  العاص من رواية مسلم: “حدثنا يحيى بن خلف الباهلي حدثنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري عن أبي العلاء أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني حدثناه محمد بن المثنى حدثنا سالم بن نوح ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة كلاهما عن الجريري عن أبي العلاء عن عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر بمثله ولم يذكر في حديث سالم بن نوح ثلاثا وحدثني محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن سعيد الجريري حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشخير عن عثمان بن أبي العاص الثقفي قال قلت يا رسول الله ثم ذكر بمثل حديثهم”.

هذا الحديث أيضا يُفَسَّر بتفسير خاطئ، لأن الحديث دلَّ على الوسوسة التي يوسوسها الشيطان لعمر بن أبي العاص، وجاء في شرح النووي لهذا الحديث ما يلي:

“وفي هذا الحديث استحباب التعوذ من الشيطان عن وسوسته مع التفل عن اليسار ثلاثا، ومعنى (يلبسها) أي يخلطها ويشككني فيها، وهو بفتح أوله وكسر ثالثه، ومعنى (حال بيني وبينها) أي نكدني فيها، ومنعني لذتها والفراغ للخشوع فيها”(2)

أما حديث المرأة السوداء المشهور فهو من الأدلة القوية عند أصحاب التلبس الجني، وهذا الحديث في الصحيحين لا ننكر ذلك. وهذا نص الحديث: “حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ فَقَالَتْ أَصْبِرُ فَقَالَتْ إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا”.

لكن من حقنا أن نسأل سؤالاً بخصوص هذا الحديث والسؤال كالتالي: كيف عرف هؤلاء أن الصرع المذكور في الحديث سببه الجن؟ وكما قال الدكتور أبو حسّان، “هل يوجد في الحديث ما يدل عليه من قريب أو بعيد؟ فالمرأة حينما اشتكت للنبي عليه الصلاة والسلام قالت: “إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله تعالى لي”، فأجابها عليه الصلاة والسلام بقوله: “إن شئت صبرتِ ولكِ الجنَّة، وإن شئتِ دَعَوت الله تعالى أن يعافيك”، فقالت: “أصبر”، فقالت: “إنّي أتكشفُ فادع الله أن لا أتكشف”، فدعا لها”.

لو سلمنا أن الصرع المذكور في الحديث سببه الجن فهل سيترك النبي صلى الله عليه وسلم المرأة يتلاعب بها الجن ويعذبها عندما قال لها: إن شئت صبرت ولك الجنة”، دون أن يرشدها إلى ما تدفع به هذا الصرع؟.

حديث آخر في هذه المعركة وهو حديث التثاؤب، وسنورد رواية البخاري.

“حدثنا عاصم بن علي حدثنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول له يرحمك الله، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان”

الشاهد عندنا هو: وأما التثاؤب فإنما من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان”، هل في ألفاظ هذا الحديث ما يبرر لنا أن الشيطان إذا دخل من فيه أحدنا معناه سيدخلنا وسيتلبس بنا؟ فهل كل الناس الذين لا يضعون أيديهم في أفواههم عندما يتثاءبون دخلهم الشيطان وتلبس بهم؟

أما قول شيخ الإسلام ابن تيمية: دخول الجن في بدن الإنسان ثابت باتفاق أهل السنة والجماعة، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، البقرة (275)، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).(3)

فقد علق عليه الدكتور جمال أبو حسان: “وما قاله ابن تيمية في القول السابق لا أراه يقوم على أساس علمي متين، ولا هو مشفوع بأدلة شرعية صحيحة، وهذا فهمه واجتهاده، فهو معذور فيه ومأجور عليه، لكن القطع بأن القضية ثابتة بذلك الوضوح وتلك الصراحة التي يتحدث عنها ابن تيمية فليس الأمر كذلك بحسب دراستي للمسألة وبحثي لأدلتها، إذ ليس في الأدلة الشرعية ما يمكن اعتباره دليلا صحيحا صريحا في الدلالة عليها، فكيف يمكن لباحث شرعي أن يعتقد بمسألة لم تثبت لديه أدلتها؟ هل يجوز له أن يعتقد بها تقليدا لغيره من العلماء؟(4)

إن هذا  العالم -عالم الجن-  استغله بعض الناس ليوهموا الآخرين بأن الجن يسكن داخلهم ولديهم القدرة على التحدث معه ودعوته للإسلام وإخراجه..

وكثير من الناس يعانون من أمراض نفسية في أبشع صورها ولا ننكر أن الشيطان له دور كبير في تأجيجها وتعقيدها، لكن لماذا يلجأ الناس إلى الرقاة والمعالجين بالقرآن كما يسمون أنفسهم؟ فمن زكّى هؤلاء الرقاة على مهنتهم هذه وعلى من أخذوها؟ إذا كان الأمر فقط قراءة القرآن فكلنا رقاة نرقي أنفسنا بأنفسنا..

إنني أتسأل من يقول لهؤلاء الرقاة أن الحالات التي تأتيهم هي حالات تلبس الجن بالإنس؟

ألا يعلم هؤلاء أن لأعراض التي يحكمون بها على المريض هي ذات الأعراض لكثير من الأمراض النفسية ولها علاجاتها الناجحة عند أهل هذا التخصص؟.

إننا لا ننكر بعض الحالات التي يسيطر فيها الشيطان على المريض، ولكن ليس لدرجة أن يسكن جسده بل هي مجرد وساوس وتخيلات وأوهام تذهب بمجرد أن تعتقد أن الجن ليس لديه القدرة على الدخول في أجساد الناس.


(1) جمال أبو حسان: أستاذ التفسير وعلوم القرآن في الجامعة العالمية الإسلامية الأردنية.
(2) شرح النووي على مسلم.
(3) مجموع الفتاوى لابن تيمية.
(4) جمال ابو حسان موقع عربي 21/ arabi21.

Exit mobile version