ونحن نشهد ربيع العام السابع لاندلاع أول شرارة لثورات الحرية والكرامة في منطقتنا والتي كان وقودها الأول جسد الشاب محمد البوعزيزي حين آثر أن يعتق نفسه من الذل والعبودية ويخلد روحه في صفحات المجد والعز فاختار أن يكوي جسده النحيل بألسنة النار المستعرة علّها تكون دواءاً لروحه المتعبة ولِعللِ الواقع الذي يعيشه مع الملايين من أقرانه من الشباب وقديما قالت العرب “آخر الدواء الكيْ”..
ولطالما كانت الأمثال أصدق معجم دون بين دفتيه شيم الأمة وثقافتها الفريدة وفلسفتها الخاصة فلا عجب أن لم يكن الكيّ دواءاً لأوجاع البوعزيزي فقط؛ بل كان الوصفة الشافية لعلل أمة بأكملها نخر جسدها وباء الذل والعبودية وأقعدها الطغيان والتجبر ودخلت في سبات طويل أشبه ببرزخ بين الموت والحياة فلا هي فارقت الحياة حتى تُدفن ولا هي على قيدها حتى تُبشَّر..
ومما لا شك فيه أن أعظم أطباء الأمم على مر التاريخ هم النخب وفحول الفكر من العلماء والمثقفين ورجال الأديان وكم من أمة كانت متهالكة مشرفة على السقوط ما لبثت أن وقفت ووثبت إلى مستقبل مشرق وسادت جيرانها وصارت مضربا للمثل في التقدم والإزهار بفضل مثقفيها الذين طبّبوها بفكرهم ولا يختلف اثنان أن أمتنا العربية كانت قبلةً يولّيها القاصي والداني طلباً للعلم والمعرفة وطمعاً بما تذخر به من التحضر، وكأي حضارة يتداولها الدهر وتمر بأطوار من الازدهار والتقدم ومن ثم الضعف فالانحطاط والتخلف فقد قلّب الدهر بكفّيه أحوالها مرارا وتكرار وكانت النخب دائما تمهد الطريق للخروج من أي مأزق أو منعطف بل وتعبده وتسوي حفره تحسبا من أي سقوط قادم.
ويجمع العالم أننا اليوم نمر بمرحلة من أقسى المراحل التي مرت على الأمة في التاريخ جعلت المثقفين والنخب ورجال الأديان في تماسٍّ مباشر مع الشعوب التي تتوق للنصح والإرشاد لكننا نجد علماء الأمة وأشرافها وكبار مثقفيها ممن وقفو بجانب الشعوب محاربين منفيين أو مغيبين إلا من رحم ربي..
ونجد أيضا فريقا من المرتزقة ممن كنا نحسبهم من عقلاء الأمة وحملة فكرها وروادها، وثبوا على كل ما كانوا يحملونه في أدمغتهم من الفكر وباعوا ثقافتهم لسلاطينهم، أو لمن يدفع أكثر من الشرق والغرب وصار كل واحد منهم بوقاً موسيقيا، تنفخُ فيه الألحان البائسة الهجينة المؤلفة مسبقا ممن يتبناه فيجمِّلها ويزيِّنها ويخرجها للشعوب، وكأنها أوركسترا ملحميّة من إبداعه ليُسمّم بها أذواق الناس التي أمست متخبطة الهوى لا تميز بين اللحن المرتجل والمنقول والمبهج والشّنيع لفرط ما بات يعزف على أسماعها وفي أرضها من السمفونيّات العالميّة والإقليميّة والمحليّة في السرّ والعلن.
وفي حين ملت الشعوب من أبواق الطغاة المثيرة للشفقة في عزفها اليومي لأُنشودة لعق أحذية الحكام صباح مساء فقد أصبح هناك أبواق جديدة يزعم من تبنّاها أنه ما جاء إلا لتخليصنا من عزفنا الركيك ونشر أنغام السلام الأبدي لتنعم به أرواحنا وأبواق تزعم رعاتها أنهم ما جاؤوا إلا لحماية ألحانهم الخاصة بثقافتهم وموروثهم والتي ألفها أجدادهم الأوائل على حد زعمهم، وراحت أبواق تدعي أصحابها أن لهم الحق في اقتطاع بعض المناطق؛ فهم يحبون العزف المنفرد ولا يطيقون أن يتشاركونه مع أحد، بيد أن أبواقا هي الأقذر والأبشع يعترف ولاتها بوقاحة أنهم ما جاؤوا إلا لتعلم العزف بأسماعنا ولتجريب آلاتها علينا فهم يطمحون أن يتدربوا فينا ليكبروا ويعودا عمالقة في العزف كما كانوا في سالف أمرهم..
حتى أن البعض لم يعد يحتاج للأبواق لكثرتها فعمله تأليف النوتات وإرسالها ليعزفها كلن من أحدهم في دوره والبعض وقف ينصت بشماته لما آلت عليه حال أسماعنا بعد كل هذا الضجيج والقرف ولاشك أن كل هذا الضجيج في ظل صمت الكثير من النخب خلق انحرافا جليّا في الكثير من الأذواق فتجد بعض من كان يعزف لحن الحرية الأصيل ويشدوا بألحانه ويترنّم بأغانيه حاد عن نوطته الأصيلة ليعزف نوطة متطرفة دينية كانت أو علمانية او قومية أو طائفية أو قبلية، كل هذا والمثقفون والعلماء ورجال الأديان في أمتنا هم الآلة الموسيقية التي يعزف بها اللحن كل في دوره وفي الزمان والمكان المنشود.
ولا أنكر أنني ومنذ سبع سنوات كنت أراقب بخوف وحرص شديدين تحول بعض المثقفين من الفضيلة إلى الرذيلة ومن الأصالة إلى الوكالة وسقوطهم واحدا تلو الآخر، وكان أشد ما يحزنني خبر سقوط مفكر كنت معجبا به وبأفكاره ومخمورا بإبداعاته إلى حد الثمالة وكنت أكذب كل الأخبار عنه إلى أن يخرج هو بنفسه ويعلن كفره بمبادئه علنا عندها كنت أطرق لساعات ويخالجني شعور أشبه بما أحسست ليلة سقوط بغداد وأقول في نفسي يا ليته ما نطق يا ليته ظل ساكتا لقد كان أجمل وهو في صمته.
سنوات والمشهد يتكرر معي يوما تلو الآخر ويعصف بقلبي قبل عقلي كل يوم على كل قلم كنت أحسبه أصيل ومفكر كان في كتبي نبيل وشيخ كان في منبره جليل وصرت أدعوا لمن بقي صامتا منهم في سري بالخرس، لأني تيقنت أنه لو نطق بعد سنوات صمته سأكرهه أكثر مع ذلك فللبعض في صمته واعتزاله أسبابه الخفية، وما أدراك بقلب من لا ينطق لكن هناك من يتهم الصامتين في هذه الأيام العصيبة، بأنه ساكت عن الحق؛ والساكت عن الحق شيطان أخرس، ولكن كم من مثقف خرج عن صمته فتحول من شيطان أخرس صامت متفرج إلى إبليس لعين حارق خارق يسعر النار في كل مكان مرت به كلماته، أليس من الأفضل له وللأمة لو أنه ظل صامتا متفرجا كشيطان أخرس صغير لا حول له ولا قوة، من أن يتحول إلى إبليس لعين وبوق جديد ولسان مصقول بوجه الشعوب..
لا أنكر أن ما حل بالكثير من المثقفين العرب من غياب وتغييب وتكميم وبيع وشراء واعتزال أثر بشكل كبير على ثورات الربيع العربي ولا أنكر أننا لسنى بالقوة المثلى بدون عقولهم بجانبنا، ولكننا سنكون أغبياء إن صنعنا من بيعهم لأنفسهم وغيابهم وصمتهم شماعة نعلق عليها كل أخطاء ثوراتنا..
فلنكن صادقين مع أنفسنا ولنعتمد على بعضنا في هذه المرحلة الصعبة ولنفترض جدلا أن هيروشيما أخرى ذهبت بهم فهل نجلس للبكاء على أطلالهم، بل إن علينا أن نستفيد ونثري تجاربنا بهم كما أثْرت الفلسفة كتبها بتشريح عقول فلاسفة هتلر ونرتقي بأنفسنا، ونثقف جيلا جديدا يفوقهم ذكاء وحنكة، وكلي إيمان أن الثورات العربية ستظل المعلم الأكبر للأجيال والنبراس المضيء لدربهم ولندفن أعزّاءنا القدامى من المثقفين الصامتين المطرقين، ولنتمنى لهم طول الصمت فإنهم لو نطقوا سيتحولون إلى أبالسة جديدة ويصبون زيتا جديدا على نارنا ولهذا أقول لهم ظلوا شياطينا خرساء يا أعزّائي القدامى.
كاتب التدوينة: محمود عارف