جرت انتخابات تشريعية جزئية في تونس، قبل أيام، لسد شغور مقعد نيابي، كان قد فاز به في انتخابات 2014 حزب نداء تونس. لم تجلب انتباه الرأي العام، ثم عندما كشفت صناديق الاقتراع عن نتائجها، أصبحت هذه الانتخابات الشغل الشاغل للطبقة السياسية، وحتى الرأي العام في البلاد، فضلا عن الإعلام، حتى أن هناك من تحدثوا عن زلزال سياسي، هزّ ما توهمنا أنها طبقات راسخة، في حين وصف آخرون ما حدث بالصدمة والمفاجأة. وما زال الجدل جاريا، خصوصا مع تهديدات بالطعن القانوني فيها، قد تؤجل التحاق الفائز، وهو شاب عنيد ومشاكس، بالبرلمان، مع أن بعضهم يراها طعونا غير جدّية.
ياسين العياري الذي فاز بالمقعد النيابي هو أحد أبناء الثورة التونسية، من الشباب الذين انخرطوا فيها، بتدويناته الشهيرة ونشاطه الإعلامي الكثيف على مواقع التواصل، فضلا عن مساهمته الميدانية. وقد عُرف، بشكل واسع، حين استشهد والده، العقيد في الجيش التونسي، في أول اشتباكات دامية بين الجيش والمجموعات الإرهابية بعيد الثورة، في قرية الروحية (شمال غرب)، في فبراير/ شباط 2011.
لم يثن ياسين العياري استشهاد والده من خوض معارك إعلامية ضارية مع مؤسسة الجيش (قياداتها العليا)، التي اتهمها بالفساد والتلاعب بالأمن الوطني، ما سبب له متاعب ومحاكمات قادته إلى السجن.
ومع ذلك، ظل يكتب منتقدا الطبقة السياسية برمتها، ولم يسلم منه إلا قليلون. حازت حركة النهضة وحزب نداء تونس والجبهة الشعبية، وغيرها من التفريعات الحزبية الأخرى، على الجزء الأكبر من نقده العنيف، والذي تجاوز أحيانا ما يعتبرها بعضهم حدودا. يستدعي مفرداتٍ تجعل صعبا تصنيفه سياسيا، فالرجل لم ينتم إلى حزب ما، ولكن خصومه يستحضرون تدويناتٍ له أشاد فيها بخطابات المتطرفين أحيانا، فيحسبه اليساريون على الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، تارة، والإسلاميين تارة أخرى، أما الإسلاميون فيحسبونه على الفوضويين.
“هناك من تحدثوا عن زلزال سياسي في فوز المدون ياسين العياري، هزّ ما توهمنا أنها طبقات راسخة، في حين وصف آخرون ما حدث بالصدمة والمفاجأة.”
ومع ذلك، يتمتع ياسين العياري بجملة من المشروعيات، وذلك ما يجعل لفوزه بالمقعد النيابي في عملية انتخابية رمزية خاصة، مزعجة للطبقة السياسية، وخصوصا خصومه الذين فتحوا عليه نيرانهم، ما أن أعلن ترشحه. ولا يكمن فوزه في الدلالة الإحصائية، وإنما الرمزية، فالرجل فاز بـ280 صوتا تقريبا، في ظل عزوف محير، خصوصا أن عدد المسجلين من التونسيين في الدائرة الانتخابية التي ترشح فيها ما يقارب 28 ألف ناخب، ما جعل نسبة التصويت ضعيفة.
أي أن العملية الانتخابية، على جزئيتها، جرت في مناخٍ من العزوف الحاد عن التصويت. ومع ذلك، يجدر الاعتراف بأن هذا الضعف لا يفسر نجاح ياسين العياري هو بالذات، إذ كان في الوسع، في هذا العزوف أيضا، أن يفوز أحد منافسيه، وخصوصا مرشح حزبي الحكم، نداء تونس وحركة النهضة، اللذين اتفقا على تعيين طبيب مرموق هناك، ذلك أن “النهضة” رفضت تقديم مرشح لها، حفاظا على مشاعر حليفها الذي كان قد فاز به في انتخابات 2014، قبل أن يعين هذا النائب وزيرا في تعديل وزاري قبل شهور.
الأجدى هو البحث عن فرضيات أخرى، لفهم فوز العياري الذي آمن بحظوظه، ودافع بشراسة عن نفسه، متحدّيا حزب نداء تونس خصوصا، معولا على وسائل التواصل التي يحترف التعامل معها، وخصوصا “فيسبوك”. وقد تطوع مناصروه، وقادوا حملة شرسة، ناهضت “السيستام” الذي يتهمونه بأنه أغلق فكيه على الثورة، وأعاد إنتاج المنظومة القديمة بألوان أخرى.
كانت التداعيات أخطر من الفوز نفسه، إذ تتالت تصريحات قياديين في حزب نداء تونس، استغلوا هذا الفوز، وحمّلوا “النهضة” المسؤولية، واعتبرو أنها نكثت العهد، متهمين قواعدها برفض التصويت لمرشح الحزب، بل ذهب بعض هؤلاء إلى أن الإسلاميين صوّتوا لفائدة خصمهم اللدود ياسين العياري. وذهب آخرون إلى أبعد من هذا، حين اعتبروا التصويت لفائدة ياسين العياري كان عقابا على تحالف “نداء تونس” مع “النهضة”. ودعوا صراحة إلى فك هذا الارتباط، وحل التحالف، في أقرب الآجال.
ويبدو أن قيادات يسارية في الحزب كانت تتصيد هذه الفرصة النادرة، للانقضاض على “حليفهم”، وإخراجه من دائرة الحكم. حدث هذا في ظل دعوات للتهدئة وتقليلٍ من حجم ما حدث، إذ تتالت تصريحات زعماء حركة النهضة التي أصرّت على تمسكها بتحالف استراتيجي، تمليه مصلحة البلاد، في ظل انتقال ديموقراطي هش، ومصاعب أمنية واقتصادية كبيرة. كما أن قياداتٍ في “نداء تونس”، محسوبة على التيار المعتدل، أصدرت بياناتٍ ندّدت بعودة “الخطاب الإقصائي” داخل الحزب، ونبهت إلى خطورته على اسقرار البلاد، وهي التي عرفت الآن ثماني حكومات.
لا يعتقد محللون كثيرون أن تؤدي كل هذا التداعيات المهمة لفوز النائب ياسين العياري في الانتخابات الجزئية إلى فك التحالف، خصوصا وأن حكومة يوسف الشاهد عرفت، في الأيام القليلة الماضية، هزّاتٍ نجت منها بصعوبة، بعد قرار حزب آفاق تونس الانسحاب من الحكومة، والأرجح أن تُعاد رسم قواعد اللعبة في أفق الانتخابات البلدية بعد أقل من خمسة أشهر.