اضغط على المربع لقـراءة | عبـادة الكتابة (الجزء الأول)
اضغط على المربع لقـراءة | عبـادة الكتابة (الجزء الثاني)
بعد أن قرأتُ تلك الكلِمات، فُتِحت أبواب الفُضول الموجُودة داخل وجداني، وقرّرتُ أن آكل مِن تلك الشّجرة المشبوهة التّي يَدعونَها ”شجرة المعرِفة”، فأخرجتُ دفتراً مِن خزانتي كُنتُ قد أخفيتُه عند ظهور التّكنولوجيا، أنا أجهل سبب فِعلتي، أو كأنّ شياطين الكتابة بقيادة الأقلام أوحت لي فِعل ذلك!!
وضعتُ الورقة فوق المكتب، وطلبتُ مِن القلَم أن يُدوِّن وجهة نظرِه دون مُقاطَعة مِنِّي، لعلّه على حقٍّ وليس شيطاناً كما يُخيّل لي، فشَرع في خطِّ ما يُريد أن يُبلِّغه…
* * *
اسمع أيّها الإنسان، فقد كان قبلك ذات زمان شخصٌ يُريد أن يكون قارئاً لإشباع نهمِه المعرفي ورواية عطشِه الفلسفي، وذات يومٍ وفي ذات مكان، كان ما كان..
فتح ذلك القارئ الكِتاب، فوَقَع نظرُه صُدفة على السّطر الأوّل من صفحَة المَقدّمة، والذي كان [في البـدء كانت كَلمة]..
تعجّب مُخاطباً نفسه: كَيف للكلمة أن تَكون، وما الذي كان قبل أن تَكُون؟ ثُمّ ابتسَم وقـرّر أن يَستمِر في القِراءة، دُون الالتفات إلى تِلك الأسئِلة.
”يــا أيُّها القارئ، يا أيُّها القارئ” صوتٌ آتٍ من الكِتاب..
فَزِع المُنادَى عليه وتَوجّس خيفةً، فنكـص على عقِبيه صَوب باب الغُرفة هرباً، وقال مستفسراً: أجنيٌّ في الكتاب؟ فردّ عليه الصّوت: بل كلمةٌ تُلقي العِتـاب، اقترب ولا تَستغرِب، أنـا الكلِمة التّي كانت في البـدء.
استجمع القارئ كامِل قِواه، وحاوَل أن يدنو من الكِتاب لِفَهم فَحـواه، ثُمّ قال: أكلـمةٌ تَتَـكلّم؟ قالت: نعم، فقال لها: تكلّـمي حتّى أراك.
قالت الكلِـمة: في البدء كُنتُ أنا، لولاي لَمَا كانت الجُملة، ولَمَا كان المعنى، منّي كانت البِداية، وبي تَكُون النّهاية.
قال القارئ: لا مَعنى مِن دُون أن تكوني في سِـياق، ولا فَهْم مِن دُون أن تَكُـون بينكِ وبين الجُملة وِثَـاق.
ضَحِكَت الكلمة وقالت: مِنّـي انبثقت اللُّغة، فكانت الأسماء والصّفات، ثُمّ تولَّدَت الأقوال والأفعال، فكُنتُ أنا روح النّص، قلب اللّسان، ونفس الإنسان الذي يَتنفس بها ويَتنافس، في التعبير والتفـكير..
تعالت أصواتُ قهقهةٍ ساخِـرةٍ فجـأةً، ثُمّ تلاها صوتٌ غريبٌ آخر يقُول: أتَفتَخِرين بما لا تَملكينه؟ ألا تَعلَمين أنّه لا يجُوز للمُفلِس أن يَـتبَـرّع؟
لم يَفزع القارئ مِثل المرّة الأُولى، فعَزم على أن يَكُون جريئاً في الكرّة الثانية، ثُمّ قال: مَن أنت أيُّها الضّيف الجديد؟
فردّ عليه المُـقهقه قائلاً: أنا الجُـملة، أنا التّي لولاي لَمَا كان للكلمِة مَكَانة، ولَمَا كان للنَصّ مَتـانَة، فأنا التي أُجَمِّل الألفاظ في قالَبٍ عتيد، وأُجامِل الأفهام في قَولٍ مُفيد، ثُمّ أُجـْمِل المعاني في سياقٍ جديد.
تعجّب القارئ من هذا الجِدال الغريب، وأخذ يُفـكّر في هذا التَنافُر العجيب، ثمّ قال لهُما مُتسائلاً: ألا يُوجد بينكما تَكامل؟ قالتا بِحزمٍ ومعاً: لا..
قال: وما الحـل؟
قالت الكَـلمة: نَستمِرّ في الجِـدال، ثُمّ قالت الجُـملة بمَكرٍ: بل نَستمِرّ في القِـتال.
بعد هذا الإصرار على خَوض غِمار الحرب مِن كِلا الطّرفين، أطرَق القارئ رأسه مُفَكّراً، يُريد جاهِداً إخماد تلك الحَرب التّي زُجَّ فيها زَجّـاً، وبَعد أن قَلّـب ما يَجُول في ذِهنِه يميناً وشِمالاً خَرج بِفِكرَةٍ كانت تَتجوّل في بِلاد العَجائب، فَقــرّر خوض هذه المَعارك بِصِفَتِه قــائداً لا مُنْقـاداً، مُديراً لا مُداراً، مُـسَيِّراً لا مُــسَيَّراً، ثُمّ قال للكلمة والجُملة:
- ماذا لو قُلتُ لكُما بأنّ الحَـرف هو الذي كان في البــدء؟
تَعالت القَهقهات مرّة أُخرى، فتَـقدّمت الجُملة قائلة ً: حرفٌ، كلمةٌ أو عِدّة كلِمات لا يَهُم، فأنا الجَــامِل، المُــجْمِل، المُجــمَّل، المُــجمِّل والجَميل صَانِـعُ الجَمــال.
تبسّـمت الكلمة وقالت: يَبقى الحَرفُ كلــمِةً شِئتُم أم أبيتُم، لأنّــه حالٌ من أحَدِ أحوالِ حالاتي..
نادى القارئ وهو يقُول: أُخرج أيّها الحَـرف وقَــدِّم نَفسك حتّى نَعْلم من أنت.
- ”اسمح لي أيّها المُحترم أن أعقِّب على آراء أبنائي وأحفادي” يقول الحرف مخاطِباً الحُضُور..
ثُمّ يُكمِل خِطابَه واثقاً مِن نفسه بهُـدُوء تامّ:
- لو نُجاري منطق الجُملة فَسَــتَكُونُ الكلمةُ جُمــلَةً جامِلَةً ومُجــمِّلةً لي، ثُمّ لو جارينا مَنطق الكلمة فسأكون أصلَ الانبثاق، فنحن مَعشر الحُروف بِنا يكون التّــهَجّي وبِأدواتِنا تُبنى المباني، للإنصاف مُهرولُون، ومِن الفَخر هارِبُون، لا نقُول مِثلما قال حَجر إيليا أبو ماضي: [حجَرٌ أنا أغبر وحقير، لا جمالاً، لا حكمةً، لا مضاء]، ولا نقُول أيضاً كما قال المتنبي: [سيَعلم الجَمعُ مِمَن ضَمّ مَجلسُنا، أنّي خَيرُ مَن تَسعى به قَدَم]، لأنّنا بين هذا وذاك واقِفُون زَاهِدُون.
صَمت الجميع مُندهشين ثُمّ قال القارئ: بماذا تَنصَـحُ أيُّها الحَرف الحكيم؟
ردّ الحرف قائلاً: أستدعِ صديق هُرمُز الحكيم، أداة الربّ العظيم، الذّي به تعلّم الإنسان ما لم يَعلَم، وبه قرأ واستخرَج مَكنُون ما لم يَفهَم، إنّه القــلم يا أيُّها المُحترم..
صرخ القارئ في لهفةٍ مُنادياً: [أحضِرُوا لنا فوراً هذا القَــلَم]، وما إن أتَــمَّ كلامَه حتّـى سُمِع صَوتٌ يَقُول:
- هل تُريدُون تقليماً أم تسطيراً أم تريدون تعليماً؟
قال الجميع: نُريد الحقيقة..
عندئذ قال لهُم: إذن، اسمعُوا وعُوا، فالحقيقة زَوجُ الحَقــيق، وكِلاهُما حارِسان للزنزانة التّي يَقبَعُ فيها الحَــقُّ أسيراً، فابحثوا عَنه لِتُحرِّرُوه مِن أجل أن يُحرِّرَكُم، فقد قال المسيح ذات يوم: [وتعرفون الحقّ، والحقّ يُحرّركم]..
أوّل ما كان ومَن كان هو أنــا، ثُمّ جـرى بِما هو كائن، ثُم رُفع بخارُ الماءِ، فخُلقَت منه غيوم السّماء، ثم خُلق النُّونُ، فبُسِطت الأرضُ على ظهْرِه، لِــيَتحرَّك، وقبل أن تَجري المُجريات بما هو كائن قُمتُ بالسُّجُود خضُوعاً وطوعاً، فسالت منّـي قَــطرةً لِتكُــون نُقطَــةً، التّي كانت تَسبَح في عالم العَدم، فانبَثَقت مِنها أبعادٌ ومِساحات وكذلك أحجام، فسَحرَت عقل اقليدس، وألهَــمَت ابن أبي طالب، وجعلت المُستقيمات المُتنافرة تَتقاطع وتَتلاقى..
فكان لسُجودي ثَمرةَ، زُرِعت فنَبتَت وزاد عددُها بالتّكاثَر، فكان الخطّ ليَـصنَع حَــرفاً فكلِــمةً فَجُمــلةً ثُمّ نصّــاً، ولِهذا فَفــي البــدء كانت نُقطــة…