هذا أنا أربُو على الخمسينَ دون مجلـّةٍ أو ساحة أو حائط أبكي عليه (مع اليهود) من العطالةِ في الوجود…
الصغير أولاد أحمد صدق من قال إن للثوار فيزيائية خاصة، وصدق من قال إن الثورة تحمل هويتها في ملامح أبنائها: لحية كثة، سيجارة الغانجا، قبعة ماركس، عيون جورج حبش…
كلها عناوين مختصرة في مخيال اليسار العالمي، هذا اليسار الذي يعتني بكل دقة بفوضوية مشهده ويقدس هلامية المظهر ويعتبر مادون ذلك تحريفات ليبرالية وتوق غير برئ إلى عوالم الارستقراطية المتعفنة…
يعتبرها أيضا جزء من نمطية تخنق الإنسان في لا إنسانية طبقية وفي تراتبية اجتماعية تكرس الفوارق وتؤصًل التفاوت…
إلى حد قريب من زمن فائت كان عدنان الحاجي، أسد المناجم، يتلبس بهذه المعتقدات سلوكا وشكلا مع فوارق بسيطة، رجل في الستين لم يكتشف نفسه بين أسوار المعارضة الكلاسيكية ولا في صالونات النخب اليسارية التتي تتقاذف فيها روحانيات الثورة بعيدا عن صوت الميدان، فهو باختصار من هناك حيث حديد المناجم وحيث رياح الرديف الرملية وحيث الصخور الكلسية التي تنحت من صوًانها كل شخصية تُبعث إلى الوجود.
هو من هناك حيث الأنا البسيطة بإمكانها التحدث بأكثر من لغة: تارة لغة نقابية وطورا لغة سياسية وأطوار كثيرة لغة تاريخية تقول في مجملها بضرورة تسيًد قفصة على عرش الذاكرة..
قفصة التي كانت حضارة بذاتها في الطور الأوريناكي تحت عنوان الحضارة الكابسية والتي تؤكد المدونة الأركيولوجية أنها ساهمت في إنشاء أوروبا الحالية…
هكذا هي شخصية كل إنسان، مزيج من أكثر من هواء ومزيج من أكثر من معدن…
فالإنسان بعيدا عن فيترينا سلوكه هو رصيد مكثف من كل العناصر التاريخية والأنتروبولوجية…
وعدنان الحاجي كذلك مزيج عجيب تفتق دفعة واحدة في سنة 2008، وكتب لحاضره في تلك الأيام الموغلة في التعتيم الإعلامي سطرا آخر في إرث الجهة النضالي، وضع لنفسه مصعدا آخر يخالف كل آدوات الركوب في سلم الشهرة السياسية فتفاجئ التونسي برجل لا يعرف عنه شيئا، رجل ضخم البنية، عينان داكنتان، شفتان غليظتان، صوت جبلي يختزل كل مشاكل الحوض المنجمي.
لقد تحدى عدنان الحاجي السلطة بكل شجاعة، وكان القائد الأوحد في معركة الحوض المنجمي، الشئ الذي كلفه السجن والعزل ولكنه أعطاه كل درجات الحب والتعاطف في قفصة، ويذكر الجميع كيف كانت إشارة منه تبعث بالمدينة إلى الهدوء كما إشارة أخرى قد تحول المدينة إلى بركان هائج، كانت بيده مقاليد الحرب والسلم في جدلية العلاقة بين قفصة والسلطة المركزية، حتى رشحه العديد إلى خلافة رمزية الأزهر الشرايطي في معاندة دولة الاستقلال..
ولكن دولة الاستقلال انتهت تقريبا في ذلك العنوان المُسمى ثورة 14 جانفي لتطرحه دفعة واحد عضوا بارزا في هيئة بن عاشور أو الهيئة المستقلة للانتقال الديمقراطي.
بعدها غاص عدنان الحاجي في الإختفاء ليعود عضوا لمجلس نواب الشعب كمرشح مستقل، لم يكن يحتاج إلى ماكينة حزبية لتحرك أحاسيس العامة والخاصة تجاهه ولم يكن يحتاج إلى كثير من المال ليستميل أصوات الناس، فرصيده النقابي جعل منه أسطورة تقبل التدريس في التاريخ السياسي الحديث لتونس.
من ميداني ثائر إلى برلماني لطيف يبدو أن تلك القبة الواقعة في ساحة باردو غيرت من مقال الرجل ومن مقامه..
ومن المقامات اختار الحاجي الإنزواء في ركن صامت، لا ضجيج يعتريه ولا ضوضاء تلُفه، حضوره يكاد يكون باهتا، لا موقف ملفت له سوى عدوانية مستمرة للإسلاميين، ولا اختيار له سوى الابتعاد عن عائلته الفكرية الجبهة الشعبية والإنضواء في الكتلة الديمقراطية التي تحوي في صفوفها نفوسا رامت التعامل والتواصل مع الإسلاميين…
إنه عين التناقض الذي جعل منه جثة برلمانية لا تقدر على البروز ولا تستطيع التأثير، هو التناقض الذي حوله من ثائر قوي إلى شخص ناعم نعومة الأحزاب الليبرالية وهادئ هدوء المرتمين في أحضان السلطة.
وعدنان الحاجي يبدو أنه أنكر ثورته وهيجانه ومواقفه وتاه في طريق أخرى نقطة العودة فيها صعبة جدا ونقطة الرجوع فيها ضرب من المستحيل.
كذلك تقول الخلاصات الفلسفية في قراءتها للفعل السياسي فالسياسة في بعض أوجهها هي رديف اللامنطق واللامعقول.
كاتب التدوينة: محمد صالح عبيدي