أشعر بتعاطف غريب مع هذه الشخصية الورقية، التي قد يكون لها وجود فِعلي في مكان ما من الكوكب الأزرق. لنفرض مثلا أن علالا قد عاش في عقد الثمانينات في مدينة إفني، على ساحل المحيط الأطلسي، على بُعد أميال من الجزر الخالدات. هذا مجرد افتراض، وهل العلم شيء غير افتراض يعقبه افتراض، فافتراض، وهكذا إلى غير نهاية من الافتراضات؟
قلتُ بأني أتعاطف مع هذه الشخصية، باسمِها الذي يحيل على سقاية الإبل، ويتضمن معنى الدليل والداء والعذر. تبهرني الأسماء التي تفتح أبواب التأويل على الآفاق المجهولة، أنا الذي لا يوجد تحت الشمس أغرب ولا أدعى للتفسير من اسمي، الذي سقطَت ألِفه من سجلات الحالة المدنية بقرية تقع جنوبي شرق المغرب تدعى فم الحصن، وما زلتُ كمجنون بني عامر أبحث عنها بين ديار عفت رسومُها وخيام ظعن أهلُها، لا أذوق طعمَ الرواح ما دمتُ لم أسترجعها ليكمل رسمُ اسمي، والاسم كما يعلم العرب، وهُم ما هُم في العلم بمغابن لغتهم الفريدة، من السمة أي القيمة بمعنى ما.
علال قد تجاوز الأربعين من عمره، لكنه يرفض رفضا باتا أنْ يفارق عالم العزوبية. بِشرته سوداء مثل ليلة مظلمة، وأسنانه بيضاء مثل ليلة مقمرة. يعمل في مرآب لإصلاح السيارات، يحاذي مسجدا صغيرا يبعد أمتارا قليلة عن الكورنيش المسمى بالعامية لابراندية (وهي كلمة اسبانية). نظرتُه صارمة، تشِي بجِدية استثنائية، لكن مَن عاشره، بل ومَن مارسه نوعَ ممارسة، يعرف أنه خارجَ أوقات العمل إنسان مَرح، صاحبُ نكتة.
يمضي علال سحابةَ نهاره في مرآبه، لا يتكلم إلا لضرورة، وفي الليل يطلق العنان للسانه، يُخرج ما في جعبته من حكايات تفوق الخيال نفسَه خيالا؛ ذلك أن رياضته المفضلة هي الحكي، رياضة رفيقة يمارسها ليلا وقد كف الآخرون عن ممارسة رياضاتهم العنيفة نوعا ما، من كرة قدم وسلة وتزحلق على الأمواج…
من حكاياته التي لا يمل من تردادها ولا يكل، ويحلف بالطلاق وأغلظ الأيمان، أنها حقيقية قد عاش تفاصيلها، يحضرني ما يلي:
إفني مدينة صغيرة، هادئة، رائعة، وخُذ ما شئتَ من معجم الجمال لوصفها، صِفها به وزد عليه، لكن سكانها ليسوا من أهل السهر، أو لعلهم يسهرون في دُورهم بعيدا عن أضواء الشارع الشاحبة. المهم أن زواريب المدينة تبدو للعابر فارغة من جوهرها ابتداء من الساعة التاسعة أو العاشرة ليلا، اللهم إلا من بعض الأفراد الذين يُعدون على الأنامل، يجتمعون هنا أو هناك حول لفافة تبغ (محرم)، أو يلعبون الورق، يبدو أنهم لا يلتزمون بالقاعدة العامة. ولكل قاعدة استثناء كما هو معروف، وأكبر ممثل للاستثناء هو علال، الذي لا يقوم بجولته اليومية إلا ليلا وأغلب الناس نيام أو يتأهبون للنوم.
تبدأ الجولة من حي بوعلام الشهير، الذي يقع على مرتفع ينظر في تحد طبيعي صريح في اتجاه المحيط الهادر. «إذا كان البعض يغرف من مائك، فالبعض الآخر ينحت من صخري، يا أبا الرذاذ»، يقول الجبل الشامخ للبحر الباذخ.
رغم أن المواصلات تنقطع في الليل، ورغم غياب إشارات المرور، فإن علالا يحترم قانون السير احترامَ العصبة البدائية لطوطمها، إذْ لا ينزل من الرصيف إلا لسبب وجيه.
يسير بمحاذاة السور الخارجي للسوق البلدي، فسور مدرسة حليمة السعدية للبنات المقابل للمطار المهجور منذ رحيل المستعمر، فالنادي النسوي ذي الواجهة الزجاجية، يترك على يساره سينما افنيدا دون أنْ ينظر إليها كأنه يعاتبها، هي التي كانت في الثمانينات تعرض فلمين في اليوم، واحد أمريكي أو صيني، والآخر هندي وهي الآن مغلقة إلا في وجه حفل تنصيب ملكة جمال إفني الذي ينظم سنويا على هامش مهرجان الصبار.
يتجاوز سميرُ الليل قصرَ البلدية ويجد نفسه أمام الحديقة العمومية التي صممها الاسبان في شكل بيضة (لربما استلهاما لفكرة البيضة الكونية)، لا يدخلها (احتراما لجمالها الآسر أو خوفا منه ؟)، بل يكتفي بالدوران حولها سبعَ مرات كأنه يؤدي طقسا دينيا معقدا أو أنه نسي إلى أين كان يتجه (وأنا المفلس أميل للاحتمال الأخير).
وبعد الطواف العجيب، يتجه صوب الكورنيش مارا بالقرب من القباضة المسماة باكادورية، التي باتت رمزا للتمرد على الواقع الرتيب، ويصل في النهاية إلى آخر نقطة من جولته المقدسة. يقف في الكورنيش، يسترد أنفاسه، ينظر إلى البحر الرحب في صمت روحاني كأنه ينتظر منه أنْ يبوح له بشيء من أسراره. لكن هيهات.
القصة التي يرويها علال بكثير من المبالغة العفوية، نزيدها نحن من عندنا مِلحا وبهارا، قد حدثت فصولها خلال ليلة مضيئة بلغ فيها القمر التمامَ. نظر علال إلى القمر فوجده أكبر من المعتاد وأدنى من المألوف، وخُيل إليه أنه يستطيع أنْ يبلغه بيده. هل فعلها؟ وفعلا (الفعل هنا لا علاقة له بالواقع)، رفع يده في اتجاه القمر يريد لمسه.
جاراه القمر في جنونه ونزل من سَماه إليه. فكر علال في نفسه متحسرا لو أن المصور لاري، الذي لا تسنح مناسبة صغيرة ولا كبيرة للتصوير إلا واستغلها، كان موجودا هنا والآن ليخلد بِعَدسته الخرافية هذه اللقطة الفريدة ! لكن، لاري في هذه الأثناء يغط في سابع نومة مثل باقي سكان هذه القرية النائم أهلها.
بدأ علال يشعر بحرارة ثاني النيرين (القمر هو الثاني بعد الشمس) على مستوى صفحة وجهه، وعندما قدر أن القرصَ بات في متناول يده، راودته فكرة سادية مفاجئة: أنْ يُدخل سبابته في ما خُيل إليه أنها عين القمر اليمنى! ويحك يا علال وهل تخفى نواياك السيئة على القمر؟ طبعا، تفطن هذا للأمر، هو الذي أوتي من العلم الاستباقي ما لا يمكن أنْ يخطر على قلب بشر مثل علال، فاستشاط غضبا، وارتفع بسرعة الصوت أو أسرع منها، وعاد إلى منزله العالي، تاركا علالا معلقا بين الحلم واليقظة يكاد يسقط من جهة الجرف الهاري المشرف على الشاطئ.
أفاق علال من سموده الوردي. القمر قد استعاد هيئته الطبيعية، فلا هو أكبر من المعتاد ولا هو أدنى من المألوف، وصاحبُ المرآب وحده لا أنيس له في خيبته الوجودية، ينظر طورا إلى السماء وطورا إلى البحر، وهو يشير بسبابته الملتهبة إلى وجهة غير معلومة كأنه يتوعد القمر بجولة مقبلة والحرب بين الرجال سجال. يبزغ نهار جديد فيعود علال إلى مرآبه، ويلزم الصمت إلى أنْ يحل الليل فينطلق لسانه وتتجدد الحكاية.