ما إن يلج الواحد منَّا صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، ويبدأ بالتسكُّع فيها باحثا عن ضالَّته أو مجيبا على رسائل أصدقائه أو متابعا لآخر الأخبار باختلاف أنواعها وميولاته، حتى يلاحظ كمية المشاعر المتدفِّقَة على شكل اقتباسات أدبية أو حكم متواترة على مرِّ السنوات، عن شخصيات عاشت وعانت وعرفت وقلَّبت مواجع الحياة.
وبين خواطر الفقد والحب والخذلان والفراق والهزيمة والتعب والكآبة والمرارة وغيرها من الأحاسيس، التي تخلِّف كمًّا هائلا من الوجع لأصحابها، تتربع باقة صغيرة من الأسئلة الخفية التي لا يكاد يلمحها إلا من استَهْلَكَت هذه البروتوكولات عقله وقلبه، وأضفت على حياته الافتراضية نوعا من الإرهاق النفسي الناتج عن كثرة التشاؤم والألم المجاني.
أهمُّها: هل هذه المشاعر حقيقية فعلا أم مجرد وهم افتراضي، أقحم نفسه كموضة من موضات العصر؟! وإن كانت حقيقية لماذا نهرب من الواقع الذي سبَّبها لنا، ونلجأ إلى الافتراضي لنرمي بثقل حقائب همومنا عليه؟! لماذا لا نبحث عن حلول لها بدل تخزينها على شكل حروف مكتظة تصرخ حنقا وخنقا؟! وما دام كل الناس مظلومون بين مخذول ومجروح ومغدور ومتعب ومهموم، فأين الظالم؟! في أي عباءة يختبئ؟! هل في ثياب جدة ليلى أم في طعم تفاحة بياض الثلج المسمومة؟! لماذا لا يَظهَر للعيان ويُظْهِر خبثه ومكره وأذاه؟
وسط الروتين القاتل واليوميات الرتيبة التي تتميز بها الحياة في مجتمعاتنا، يبدو الجفاف العاطفي بين الأفراد أحد أهمِّ العناصر المكوِّنة لعلاقاتهم ببعض؛ ولعلَّ هذا سبب من بين أهمِّ الأسباب الكثيرة التي أدَّت إلى كبت المشاعر في الواقع أو ترجمتها إلى أفعال مناقضة لمكنونات القلب.
يأخذ العرف حيِّزا كبيرا جدًّا في هرم الحكم وينافس بشدة شرائع الإسلام وأحكامه، فمجتمعاتنا لا تكتفي بتطبيق ما جاء به الرَّسول الكريم، بل تزيد عليه قيود العادات البالية التي أغلبها مضرٌّ أكثر من كونه نافع، وقضية المشاعر المتضادة بين العالم الأزرق والحقيقي تعتبر نتاجا لحبال العرف والعادات؛ فالأب الذي لا يحضن أولاده وخاصَّة الكبار إلا في المناسبات، والأم التي تنقطع قبلات الرَّحمة والحب بينها وبين أبنائها بمجرد أن يلجوا عتبة البلوغ، والإخوة الذين يخجلون من إبداء عبارات الحب والأنس بينهم ويفضِّلون عبارات الشتم والشجار كلغة بديلة مُشَفَّرة لا تعكس مضمون أفئدتهم، كيف ستكون شخصياتهم مستقبلا؟!، وكيف سيواجهون عقبات الحياة ومسؤولياتها المتشعبة؟!!
“الكبت”، كنز عظيم متوارث عبر الأجيال بشكل فطري، مندمج مع أساليب التربية العقيمة التي تهدم الطفل، بدل بناء شخصية سليمة قوية له، ترفع القلم عن الذَّكر وأخطائه وتمسح خطايا المجتمع في فساتين البنات، وتجعل من المشاعر الجياَّشة عيبا يستوجب التَّحكم به مماَّ ينعكس سلبا على العلاقات الاجتماعية، فالمخطؤ يخجل أو يتكبر على الاعتذار متَّخذا كبرياءه وسادة يريح ضميره عليها، وبالتالي تفسد العلاقات بسبب قلة المراهم وانعدام الوعي ومحاولات التغير والتغيير.
بعض الصفحات على الفيس أو الإنستا، وغيرها من المواقع يجعل منها أصحابها عبارة عن مقابر وجع واضطهاد نفسي وانكسارات، وإذا ما رأيتهم على أرض الواقع انصدمت من كمية التناقض بين الحياة الحقيقية والافتراضية!! دون أن ننسى هواة المثالية الذين يسعون إلى الظهور وتاجُ الكمال فوق رؤوسهم وإذا رأيت وجههم الأصلي حسبتهم لعنة حلَّت بالبشرية.
هي إذا مشاعر معلَّبة متعطِّشة للإعجاب والتَّعليق كنوع آخر من المواساة، خلَّفها التفكك الاجتماعي الرهيب الذي نعيشه، وبين من يتَّخذها مرحاضا يفرغ فيه فضلات همومه، ومن يعتبرها مسرحا لمثاليته البالية وبين الإمَّعة الكثيرين الذين يعانون من ارتخاء أشرعتهم ويتَّبعون أيَّ ريح تمر في طريقهم فتعوَّدوا على الأمر كموضة منتشرة وأصبحوا يصطادون حروفها من هنا وهناك ويلصقونها على صفحاتهم ضاعت الحميمية التي تلملم أشلاء مجتمعاتنا المريضة من شتى النواحي.