بداية الأمر سنخوض في مقدمة عن التعلم وأهميته للنشء، وأثر ذلك على عقل الأجيال، وتقدُّم الأمم، ورقي الفرد بما أننا مجتمع “المفترض” أنه يدعم من يعمل بالميدان الأكاديمي، ومن يسعى لطلب العلم، لن أُثقل عليك بسردِها، فأنا وأنت حفظناها عن ظهر قلب.
لكن ستفاجأ بأن داخل هذا الميدان معركة ملحمية ليست بالقوية ولا بالهزلية، وإنما طرفا النزاع ليسوا في القوى متكافئين.
نعم ستُدرك ذلك عندما ترى طالباً جامعياً يتوعده أستاذه بالعلامات الدراسية إن لم يحضر المحاضرة مثلاً، أو أن أستاذاً جامعياً يقول لطلاب الماجستير بين يديه: “احمدوا الله أنّا سمحنا لكم بمنحكم تلك الدرجة من العلم”، يا إلهي كم هو كريم ويتميز بالجودِ حقاً!
ورُبما ستدهش أكثر، إذا علمت أن مناهجك ومساقك التعليمي لم يتم تحديثها منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً، أو أن أستاذك الذي يُدرسك تجاوز الثمانين من عمره مصاب بجميع أمراض الشيخوخة. فكيف ستكون نظرتك للأمر لو كنت أحد هؤلاء؟ بالطبع لن أجيب عن هذا التساؤل؛ لأنه راجع إليك.
لكنني سأتحدث عن تجربتي مع التعليم الجامعي ككل..
في بداية الأمر ظننت أنني سأبدأ مرحلة الباحث لا المُتلقي للمادة العلمية وفقط، لكن كأنها صفعة القدر لي بأنني كنت على مدار الأربع سنوات أحضر إلى فرقتي، أو صفي الدراسي داخل المدرج ليُدخل “دكتور جامعي خمسيني” عساه حديث الحصول على درجة الدكتوراه، يُدرّسنا ما أنعم الله به عليه من علم، ولتكُن شهادة حق معظم أساتذتي كانوا يدعموننا بالجانب العملي والبحثي جداً، ولا يبخلون علينا بمعلومة.
والحمد لله تخرجت، ولكن دائماً الطموح يروادُني سأعمل بالميدان الأكاديمي، وَبما أنني كُنت طالبة جامعة خاصة، ففي نظر البعض سأكون طالبة مدللة.. “لكن ليست تلك الحقيقة”.
وبعد التخرج قررت الخوض للحصول على درجة الماجستير سريعاً؛ كي لا يسرقني الوقت، لكن هذه المرة روتين الجامعات الحكومية صفعني يميناً ويساراً، فلكي أكون أهلاً لتلك المهمة عليَّ الحصول على عدة دورات تعليمية (لغة – علوم الكمبيوتر – إعادة دراسة مواد درستها سابقاً)، تقبلت الأمر بعد قليل من التذمّر والاستياء، وخضت التجربة بأريحية مؤقتة وأنهيت فصلي الأول؛ لأتقدم لامتحان القبول لدراسة الماجستير قلتُ في نفسي: “لا يطلب العلم بالرقة، ولكن بجذ النفس له”، وبعد النجاح بامتحان القبول والفرحة المؤقتة داخل فؤادي والنشوى والسعادة، صدمني واقعي أنه عليَّ الحضور للجامعة للسؤال عن موعد البدء، وأيضاً متابعة صفحة الكلية عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت لمعرفة جدولي الدراسي، وبعد فترة زمنية قصيرة، والكثير من المتابعة دون جدوى، ذهبتُ لأسأل فإذا هم يقولون لي إنهم بدأوا محاضرة واحدة مع أغلب الأستاذة، اطمأنت نفسي قليلًأ، ولكن عنصر المفاجأة لم يتركني.
ذهبت للجامعة لأسأل متى سيبدأ فصلي الدراسي؟ فإذا به بدأ بالفعل، وتم حرمان العديد من الطلاب من هذا الفصل لعدم الالتزام.. رُبما ليست القصة مأساوية، ولا الأمر المهم، لكن الذي عرفته أنني لا يمكنني اختيار موضوعات أبحاثي، ولا حتى موضوع رسالتي للحصول على تلك الدرجة أو أعلى منها، لأن من بيده الاختيار يا أخي إنه الأستاذ المشرف، هو الذي يختار.
تلك نقطة من اثنين تثبت لك أن القوى ليست متكافئة؛ لنُركز الآن على اللوائح بكوادر التعليم الجامعي التي من إحداها حصول “الدكتور الجامعي” على فترة تدريس أخرى بعد تقاعده عن العمل ،وهنا يحصل على لقب “أستاذ متفرغ”!
لنحسبها بعد تقاعده يصفه بأنه متفرغ إذاً قبل تفرغه ماذا كان يفعل؟
كيف لأحدهم بعد تجاوزه الثمانين أن يعمل بكادر يحتاج للتركيز المستمر كالتعليم؟ أَيُعجبك الوضع حين يصيب الأستاذ نوبة من ألزهايمر المؤقت أو يغفو قليلاً ناتج عن أثر الأدوية التي يتعاطاها باستمرار أليس الأمر مخجلاً؟
لكن بعد كل ما يجري وسيجري بِنا أو بغيرنا سنطلب هذا العلم؛ لأن طلب العلم فريضة أولاً، ثم لأنه هو الوسيلة لذاك العلم البعيد الذي ينفع، هذا ما يراه الكثير منّا من فئة الشباب، والتي بجمع بعض الآراء منهم، فيرون أن بعض المجالات كالطب يوجد بها زمالات ودراسات أجنبية معتمدة تستحق خوض المأساة من جديد؛ لتزويده المعرفي والدراسي في مجاله، أو لتهيّئ له فرصة لاستكمال دراسته بالخارج.
ومهما كانت المعركة والقوة غير متكافئة فلك منّي القتال حتى نصل لحيث نريد من العلم فيما نريد، فتعلم ما تحب واسعَ فيه وعلّمه لمن هم دونك فيه، فتلك معركة والله تستحق.